عرض القضية
إن اتساع نطاق الإعلام والفنون الدرامية في العصر الحاضر سببت لبعض العناوين الفقهية، التي كانت أمثلتها أقل من قبل، تجد مجالا أوسع للتحقيق، وأصبح الحديث عنها ضروريا بشكل مضاعف. وان أحد هذه الألقاب هو “التشبه بالجنس الآخر”؛ ويعني مشابهة الشخص للجنس الآخر في الملابس والسلوك وما إلى ذلك. و”التشبه بالجنس الآخر” له أنواع عديدة، منها حرمة “التشبه في السلوك الجنسي” (الشذوذ الجنسي) و أن الفقهاء اختلفوا في أنواعه الأخرى. و تحاول هذه المذكرة الإجابة على سؤال هو هل يحرم التشبه بالجنس الآخر في الأفلام والدرامات؟
اما الإجابة على هذا السؤال أولاً مناقشة مفهوم “التشبه بالجنس الآخر” لتوضيح مسألة الحرمة المحتملة. ومن ثم يتم بحث “التشبه بالجنس الآخر” من الناحية الفقهية. وتشير الأبحاث إلى أن العلامة الحلي في القرن الثامن الهجري هو أول من حدد تحريم “التشبه بالجنس الآخر”. ثم تناول الشهيد الثاني هذه المسألة في القرن العاشر الهجري، وبعد ذلك أصبحت هذه المسألة لها وجود في الكتب الفقهية. وقد تناول الفقهاء فيما بعد هذا العنوان الفقهي في النوع الرابع من كتاب “المكاسب المحرمة” – أي اكتساب الأفعال المحرمة في ذاتها. وقد تناولت هذه المسألة في بعض المقالات المعاصرة، وكان أهمها إعادة بيان المواضيع التي تناولتها الكتب الفقهية للمتقدمين٠
مفاهيم وأنواع التشبه بالجنس الآخر
مهما كان مثال “التعريف بالجنس الآخر” فهو مثال “التشبه بالجنس الآخر”. وبناء على تحريض الحالات الخارجية، يمكن تصور عدة أنواع من “التشبه بالجنس الآخر”. وقد ورد بعض هذه الحالات أيضًا في كلام الفقهاء؛
١.التشبه في الملابس: يعني أن يستخدم الرجل ملابس خاصة بالنساء، سواء كان هذا الخصوص من حيث نوع الملابس أو من حيث شكلها و هيكلها؛
٢.التشبه في الزينة والمظهر: وقد ذكر الشيخ الأنصاري حرمة التزين بزينة الجنس الآخر، وأعطى أمثلة على ذلك مثل استعمال الرجال للأساور والخلاخيل النسائية؛
٣.التشبه في السلوك والكلام والأدوار الاجتماعية: وهذا النوع من التشبه له أشكال مختلفة؛
أ. التشبه في السلوك: إذا قام الشخص بسلوكيات فردية أو اجتماعية خاصة بالجنس الآخر، فإنه عادة ما يكون قدوة مشابهة للجنس الآخر٠
ب. التشبه في الكلام: مثل التشبه في اللهجة، واختيار الأسماء والألقاب النسائية للرجل، واختيار الكلمات واسلوب ا تقليد الانثى٠
ج. التشابه في الأدوار الاجتماعية: من الأمثلة الشائعة على “التشبه بالجنس الآخر” هو قبول الشخص الآخر للأدوار الاجتماعية الخاصة بالجنس الآخر٠
٤.التشابه في السلوك الجنسي: التشبه في السلوك الجنسي وأداء الدور الجنسي الخاص بالطرف الآخر؛ يعني المثلية. هذا النوع من التشبه غير وارد، لأنه لا شك في حرمته٠
الحكم الفقهي للتشبه بالجنس الآخر ودراسة أدلته في الأفلام والدرامات
أما القسم الرابع فهو خارج عن المناقشة لكثرة الأحاديث وإجماع الفقهاء على حرمته. ولكن لإثبات حرمة التشبه في اللباس، والتشبه في الزينة والمظهر، والتشبه في السلوك والكلام والأدوار الاجتماعية، تم الاعتماد على الأسباب التالية٠
حرمة اذلال النفس: و الاستدلال على ذلك كالاتي: إن الله تعالى وكل أمور المؤمنين كلها إلى نفسه، لكنه لم يوكل إليهم الذل. فعدم تكليف المؤمن بالأمر مظهر من مظاهر الحرمة، ولذلك فإن “إذلال النفس” حرام٠
على الرغم من أن “التشبه بالجنس الآخر” بأشكاله المختلفة يسبب في كثير من الحالات “إذلال النفس”، إلا أنه لا توجد عادة علاقة دائمة بين “التشبه بالجنس الآخر” و”إذلال الذات”. ويبين تحليل العادات أن هناك عوامل مختلفة مؤثرة في هذه الظاهرة، بما في ذلك وجود أو غياب الهدف العقلاني والوضع الاجتماعي للاشخاص. و نتيجة لذلك يمكن القول: رغم أن “إذلال النفس” محرم، إلا أنه بحسب العوامل الفعالة في “إذلال النفس”، فإنه لا توجد علاقة ارتباطية بين أنواع التشبه بالجنس الآخر وإهانة النفس المذكورة، فلا يقال إن إظهار التشبه محرم من باب الذل على وجه العموم٠
٢.حرمة لباس الشهرة: من الألقاب التي تشير إلى التشبه بالجنس الآخر في البرامج والأفلام، لباس الشهرة، ويعني ان الملابس غير المحتشمة، والملابس المثيرة، والملابس التي تسبب الذل. ووفقا لاستدلال البعض بناء على الأحاديث فإن لباس الشهرة (يعني اللباس االمثير) يتنفر منه الشرع، لانه حسب الظاهر له نوع من الحرام، فيحرم لبسه٠
ومن باب انتقاد هذا السبب يمكن القول: وإن أصبح الأمر غامضاً بسبب مشاكل المستندات والوثائق في الروايات ذات الصلة، فإن المعنى الأول (الملابس المخالفة للزي المتعارف) لم يرد أصلاً في الروايات و امثال ذلك العنوان. فلا وجود له في الروايات للمعنى الثاني لملابس الشهرة؛ أي أنه على الرغم من أن اللباس على شكل مثير، محظور أيضًا، فمن حيث التحقيق، يجب أن يكون هذا النوع من الشهرة كافيًا، وبالتالي فإن انتهاك أنواع الشهرة الأخرى، حتى مع إلغاء الشخصية العرفية، يتطلب اسبابًا أكثر. ورغم أن “التشبه بالجنس الآخر” في كثير من الأحيان في الملابس والمظهر يسبب الاثارة وثم الاتهام، إلا أن هذا ليس دائمًا. والنتيجة هي أن السبب المذكور يجر الى الاعتراض ولا يمكن الاعتماد عليه٠
٣.حرمة ترويج الاباطيل: ويفترض السبب أن بعض حالات “التشبه بالجنس الآخر” وخاصة عرضه أمام الجمهور، يكون سبباً في ترويج بعض المحرمات أو تسهيلها، وبما أن “ترويج الاباطيل” حرام، فإن “التشبه بالجنس الآخر” ” حرام أيضًا. ومن المؤيدين لهذه الدليل الفقهاء مثل صاحب كتاب الجواهر والإمام الخميني والمرحوم الخوئي والمرحوم السبزواري. لكن ليس في المصادر الفقهية تفصيل حول معنى هذا العنوان وأدلة الحرمة. أضف إلى ذلك أن معنى “ترويج الاباطيل” لم يشرح جيدا في كتب الفقهاء المشار اليهم، ولم يتبين هل معنى “الاباطيل” مجرد أشياء محرمة أم عامة على الحرام والمكروه. ومن المؤكد أن معنى هذا المفهوم يشمل فقط “الحرام”، لكن هل التشبه بالجنس الآخر في البرامج والأفلام يندرج تحت هذا العنوان أم لا؟ هناك فرق٠
المعتقدون بحرمة التشبه في الدراما قد طرحوا الاستدلالات الآتية:
عدم وجود قبح المحظورات السلوكية في التشبه: بمعنى أن توجد موارد مثل عدم وجود حجاب المرأة المسلمة، واختلاط الرجال بالنساء الأجنبيات في الأفلام والدرامات، خاصة عندما تكون هذه السلوكيات منكرة في المجتمع (على الأقل في الشريعة) غالباً ما يكون سبباً في التقليل من قبح هذه الحرمات في المجتمع والترويج لها بالباطل. وتجدر الإشارة إلى أن عنوان الترويج الكاذب، بالإضافة إلى فعل الفاعل المشتبه فيه، ينطبق أيضًا على فعل العوامل الأخرى الفاعلة والمساهمة في إنتاج العمل المسرحي وتوزيعه بما في ذلك الطاقم الإعلامي والأمناء٠
– الخلل في تحقيق نظام هوية المطلوب في الدين و ما يترتب على ذلك: وبهذا يؤدي انتشار التشبه بالجنس الآخر إلى تلاشي حدود الهوية بين الرجل والمرأة تدريجياً وتتضاءل حدود الهوية الدينية والأخلاقية والثقافية والحضارية. فالأنظمة القائمة على التمييز في الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة، ستضطرب، وفي النهاية تموت مقاصد الشريعة المتجسدة في شكل هذه الأنظمة؛ ولذلك، إذا انتشر التشبه بالجنس الآخر في الأفلام والدرامات، من حيث النوعية والكمية، مما يؤدي إلى إضعاف حدود الهوية، فهو حرام؛ لأنه مثال على إهمال مقاصد الشريعة والترويج للاباطيل٠
حسن الختام
وبناء على ما تقدم فإن “التشبه بالجنس الآخر” يشمل أربعة أنواع: “التشبه في الملابس”، و”التشبه في الزينة والمظهر”، و”التشبه في السلوك والكلام والتخطيط الاجتماعي”، و”التشبه في السلوك الجنسي”. الحكم الفقهي هو القسم الرابع من الحرمات، لكن في باقي أقسام الحرمات لم يثبت ذلك، وذلك لأن الأدلة ليس لها القدرة على إثبات التشبه مطلقا٠
هذه المذكرة جزء من المجلة الإلكترونية “مبادىء فقه الدراما” التي تم إصدارها بالتعاون مع المدرسة الفقهية الفنية وموقع شبكة الاجتهاد٠