عندما يتعلق الأمر بكتاب مقاصد الشريعة، فمن المتوقع تجاوز قضايا “الزمن و الارض” ودعم الأنواع غير الزمن و الارض من أحكام الشريعة. فليس هناك مجال لتغيير الحكم. و يتعلق هذا الأمر بوضع الحكم في نفس القضية كما ينبغي. و لذلك تُفرض الأحكام على الرعايا، ويخضع الرعايا لتغير ملحوظ مع مرور الزمن[1]. و وجهة الحكم الشرعي ثابتة، وهذه الوجهة الثابتة (إذا ثبتت) هي التي تخلق خطة جديدة٠
إن الالتزام بكتاب مقاصد الشريعة يلعب دورا مؤثرا في حل المسائل الفقهية الفنية. لذلك إن الاهتمام بهذا الفصل في استنباط حكم فتح نافذة نفسه سيكون أمراً مأمولاً وموافقاً للشرع وواقعياً٠
فعلى سبيل المثال، ندرس بعض القضايا في مجالي الفنون التجسیدیة والموسيقى على أساس كل حالة على حدة ووفقا لمذكرة قصيرة٠
فمن الناحية النظرية، إن عدم إظهار التقليد السردي في صورة هو من وظائف ثقافة ما بعد الجاهلية. ويبدو من الطبيعي أنه لا تزال هناك تجمعات وثنية بين العرب، وهذا أمر لا مفر منه في مجال الثقافة المؤسسية. ولهذا السبب فإن الصلاة أمام تمثال أو صورة أو الاحتفاظ بتمثال أو صنع تمثال بأي شكل من الأشكال تذكرنا بالثقافة الجاهلية الوثنية؛ ولذلك فإن الابتعاد عن ذلك الزمن أو الابتعاد عن تلك الجغرافيا ولو في نفس الوقت يستبعد قاعدة الاشمئزاز أو التبجيل، والحقيقة منذ البداية أن هذا التفضيل لم يثبت لموضوع التمثال و الصورة. وقد وردت هذه الفرضية صراحة في عدد من الطروحات السردية، وهي ترشدنا إلى وجهة دينية٠
أما فيما يتعلق بالغناء والموسيقى، فإننا أمام خبر أول موسيقى عُزفت فرحًا بوفاة النبي آدم[3]. فإن حقيقة استخدام الموسيقى الأولى بطريقة خبيثة ليس سببًا لإدانة أي نوع من الموسيقى لأي غرض. ومثال هذه المشكلة اختراع الشيطان للمنجنيق، وذلك في عدد من الأحاديث[4]؛ إلا أن استخدام النبي للمنجنيق والوصية باستخدامه في الحرب يمكن رؤيته في لغة الأحاديث[5]. وحتى لو كان المقام الأول لموضوع الحكم قد تطور مع مصاحبة أمر غير مشروع، فإن إزالة تلك القيود تجعل تطبيق ذلك الموضوع جائزا على مر التاريخ٠
نحن لا نواجه مثالاً وتطبيقًا للموسيقى الشرعية في فترة نقل الأحاديث، وكانت التجمعات الموسيقية مصحوبة على نطاق واسع بالرقص وشرب الخمر والغناء الحسي للمطربين[6]. ولهذا السبب، لم يظهر جانبا جيدا. وتحريم استعمال الغناء والموسيقى واضح لدرجة أن الإمام يترك السائل لضميره، ويدرك السائل بسهولة أن سماع الموسيقى حرام [7]. فكيف يكون في بعض موسيقى عصرنا أن هذا النوع من تحريمه لا يكون ضميرياً، بل أن هناك وعداً بالحل في الفتوى؟ لأن استخدامات الموسيقى تغيرت. وكتاب مقاصد الشريعة هو تجنب محرمات الاختلاط بالموسيقى في ذلك الوقت؛ لكن مع تطبيقات هذا الزمن الحلال، مثل استخدام الموسيقى في طريق التعليم النافع أو مواجهة الموسيقى العبثية في ساحة المعركة الثقافية، فحتى التفوق (عمداً أو بالضرورة) ممكن؛ وليس بسبب الحكم الثاني، بل بسبب الحكم الأول٠
[1] المرحوم آية الله السيد الإمام الخميني: «في هذا الصدد يقول انا أؤمن بالفقه والاجتهاد ولا أرى جواز لمخالفته». والاجتهاد صحيح بنفس الأسلوب، لكن هذا لا يعني أن الفقه الإسلامي ليس ديناميكيا، فالزمان والمكان عنصران محددان في الاجتهاد. وهذه القضية كان لها حكم قديما، وهي على ما يبدو نفس القضية في العلاقات التي تحكم السياسة والمجتمع والاقتصاد والنظام، و قد تجد حكما جديدا، مما يعني أنه مع الفهم التفصيلي للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، نفس القضية الأولى التي ظهرت لا تختلف عن القديمة، فلذلك أصبحت فعلا قضية جديدة تتطلب حكما جديدا”. (صحيفة نور ج21 ص98)
۲] … وَ أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْمُصَلِّي وَ النَّارُ وَ الصُّورَةُ وَ السِّرَاجُ بَيْنَ يَدَيْهِ هَلْ تَجُوزُ صَلَاتُهُ فَإِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ قِبَلَكَ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَوْلَادِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ أَوْ عَبَدَةِ النِّيرَانِ أَنْ يُصَلِّيَ وَ النَّارُ وَ الصُّورَةُ وَ السِّرَاجُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ وَ النِّيرَانِ … (كمال الدين و تمام النعمة ؛ ج۲ ؛ ص۵۲۰)
[۳] عَنْهُ [ای سهل بن زیاد] عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سَمَاعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع لَمَّا مَاتَ آدَمُ ع وَ شَمِتَ بِهِ إِبْلِيسُ وَ قَابِيلُ فَاجْتَمَعَا فِي الْأَرْضِ فَجَعَلَ إِبْلِيسُ وَ قَابِيلُ الْمَعَازِفَ وَ الْمَلَاهِيَ شَمَاتَةً بِآدَمَ ع فَكُلُّ مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ الَّذِي يَتَلَذَّذُ بِهِ النَّاسُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ ذَاكَ (الكافي / ج۶ / ۴۳۱)
[۴] على سبيل المثال: فُرَاتٌ قَالَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الزُّهْرِيُّ مُعَنْعَناً عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع فِي قَوْلِ اللَّهِ [تَعَالَى] قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ قَالَ إِنَّ أَوَّلَ مَنْجَنِيقٍ عُمِلَ فِي الدُّنْيَا مَنْجَنِيقٌ عُمِلَ لِإِبْرَاهِيمَ بِسُورِ الْكُوفَةِ فِي نَهَرٍ يُقَالُ لَهُ كُونِي وَ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا قَنْطَانَا فَلَمَّا عَمِلَ إِبْلِيسُ الْمَنْجَنِيقَ وَ أُجْلِسَ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ … (تفسير فرات الكوفي / ۲۶۳)
[۵] وَ عَنْ عَلِيٍّ ص أَنَّهُ قَالَ: يُقْتَلُ الْمُشْرِكُونَ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَ قَتْلُهُمْ بِهِ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ حِجَارَةٍ أَوْ نَارٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَ ذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ وَ قَالَ إِنْ كَانَ مَعَهُمْ فِي حِصْنِهِمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَوْقِفُوهُمْ مَعَهُمْ فَلَا تَتَعَمَّدُوا إِلَيْهِمْ بِالرَّمْيِ وَ ارْمُوا الْمُشْرِكِينَ وَ أَنْذِرُوا الْمُسْلِمِينَ لِيَتَّقُوا إِنْ كَانُوا أُقِيمُوا كُرْهاً وَ نَكِّبُوا عَنْهُمْ مَا قَدَرْتُمْ فَإِنْ أَصَبْتُمْ أَحَداً فَفِيهِ الدِّيَةُ (دعائم الإسلام / ج۱ / ۳۷۶)
-وَ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الْمِنْقَرِيِّ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنْ مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الْحَرْبِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُرْسَلَ عَلَيْهَا الْمَاءُ أَوْ تُحْرَقَ بِالنَّارِ أَوْ تُرْمَى بِالْمَنْجَنِيقِ حَتَّى يُقْتَلُوا وَ مِنْهُمُ النِّسَاءُ وَ الصِّبْيَانُ وَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَ الْأُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَ التُّجَّارِ فَقَالَ يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ وَ لَا يُمْسَكُ عَنْهُمْ لِهَؤُلَاءِ وَ لَا دِيَةَ عَلَيْهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ وَ لَا كَفَّارَةَ الْحَدِيثَ (وسائل الشيعة / ج۱۵ / ۶۲ / ۱۶ ۶۲
[6] انظر: دراسة ثقافية للموسيقى والإسلام من منظور الأنثروبولوجيا الموسيقية؛ من العصر القديم إلى العصر الإسلامي، طاهرة مهرباد، مجلة أبحاث في الفن والعلوم الإنسانية، نوفمبر 2017، السنة 3 – العدد 12، ص 25-46
هذه المذكرة جزء من المجلة الإلكترونية “أصول الفقه الفني” التي تصدر بالتعاون مع مدرسة فقه الآداب وموقع شبكة الاجتهاد.