ملحوظة: الاجتهاد في الفقه الفني، كغيره من الفقه الناشئ، مبني على المقدمات. وهذه المسلمات ليست خاصة بفقه الفن، ولا هي حتى خاصة بعلم الفقه، بل هي موجودة في كل المعارف غير التجريبية. وبالنسبة للابتكار في فقه الفن، فإن تغيير هذه الافتراضات يمكن أن تكون بناءة. وقد كتب حجة الإسلام والمسلمين ياسر أمينيان، أستاذ المستويات العليا في حوزة قم العلمية ملاحظات حول هذا الموضوع كما يلي؛
رغم أن هذا العنوان يسمى “الفن” باللغة العربية اليوم، لا يدخل في الأحكام الشرعية، إلا أن بعض الأمثلة منه، مثل النحت والرسم والغناء وغيرها، تدخل ضمن الأحكام الشرعية. وفي تلخيص عام لهذه الأحكام يمكن القول أن أغلب فروع الفن لم تشجع، سواء حرمت أحكامها أو منعت. وبناء على هذه الأحكام تكونت هذه الصورة في الأذهان أن الإسلام ليس له رأي إيجابي في الفن. ولعل كاتب السيرة الشرعية يؤكد هذه الصورة أيضاً، لأن غالبية المؤمنين طوال تاريخ الإسلام لم يهتموا بهذه الفروع من الفن، ولم يلتفتوا إلا في حالات محدودة مثل نظم القصائد الدينية، وتذهيب القرآن وتلاوته، وعمارة المساجد خاصة في القرون الأخيرة ومن خلال إلقاء المراثي والأدعية نرى دخول علماء الدين إلى مجال الفن٠
فمع التطورات الحضارية التي شهدتها القرون الأخيرة وانتشار مجالات الفن وتعزيز وظائفه في حياة الإنسان، شهدنا المزيد من الاقبال والشعور بالحاجة إلى الفن. وهذه المسألة، بالإضافة إلى التغيير الذي لوحظ في بعض الفتاوى الشائعة، مثل نجاسة أهل الكتاب طبعا بمراجعة تفسير الأدلة أو بطلان بيع النجاسات باعتبار أن الآن بعض النجاسات مثل الدم، له فائدة عقلانية، ويثير التساؤل عما إذا كان يمكن إجراء هذا التغيير في مجال الفن أيضا؟ وفي هذه المذكرة، نذكر الطرق التي تؤدي إلى هذا التغيير:
١.إنكار رقابة النصوص الشرعية في عصرنا هذا: إذا كنا نعتقد أن الإسلام دين خالد، إلا أن الأحكام التي عبر عنها الأئمة عليهم السلام كانت مبنية على زمن هؤلاء النبلاء وأحوال مثل ذلك الزمان[1] ونتيجة لذلك مع تغيرالحضارة واختلاف الأحوال، تغير الوضع السابق. فقد أدخلت النصوص، وخاصة تلك النصوص المتعلقة بالشؤون السياسية والاجتماعية والثقافية، ليس لها أي حجية، بل على العكس من ذلك، لا بد من الحصول على واجب من الإمام في نفس الوقت، وهو ما لا يمكن بسبب الغياب، ففي هذه الحالة سنكون في فضاء إعاقة الأحكام، ونطاق تطبيق الرأي في الأمر. وسيتم فتح باب استخلاص الأحكام، ويمكن للفقيه أن يتخذ منهجاً إيجابياً ومشجعاً للفن.
٢.تغيير الموضوع الحقيقي: بقبول مبدأ الرقابة على النصوص لجميع العصور والامصار، قد نعتقد بهذا النقص في الرقابة في بعض فروع الفن. فعلى سبيل المثال، في حالة النحت الذي نهى عنه، دعونا نعتبر أن الملكية الحقيقية للنهي ليست جوهر هذا العنوان، بل النحت مثلاً الذي هو إدخال وترويج لعبادة الأصنام ينتمي إلى الناهي. أي مع التحليل أن الزمن الذي صدرت فيه هذه النصوص لم يكن بعيداً عن عصر عبادة الأوثان، والسبب هو عودة الناس إلى عادات وثقافة الجاهلية، فقد حرم الشرع النحت، بينما في العصر الحالي، فإذا انتفى هذا الشك لم يعد النحت محرماً. [2] بمعنى آخر، طبيعة النحت لاتؤدي إلى الفساد، بل وجد صنع التماثيل واجب سلبي ومفسدة في وقت ما، وبحسب وظيفته أصبح ملكًا لينهى عنه، ولكن مع تغير هذه الواجب في الوقت الحاضر، تتغير الجمل أيضًا.
٣.العناوين الثانوية: على فرض رصد النصوص وعدم تغيير موضوع السبب، قد نعتقد أن بعض فروع الفن مفضلة، وهي على الحكم الأول لم تكن محرمة ولا مستحبة، كالرسم. أي لو كان الاستدلال الفقهي بجواز الرسم، لكن ليس لها أفضلية أو أولوية، باعتبار العناوين الثانوية يمكن إعطاؤها الأولوية. وألقاب مثل ترويج الدين ونشره، والعزاء على سيد الشهداء عليه السلام وغيرها. ولذلك يمكن القول أن تعلم فن الرسم واستخدامه لغرض المسميات المذكورة أمر يحث عليه ويشجع عليه الشرع الحنيف.
٤.التحرر من الخلفيات: فقد رأينا في مجموع الفقه والفتاوى أنه في بعض الأحيان، في وقت ما، تنتشر الفتوى، بل وتصل إلى حد الشهرة، لكنها في الرأي الأخير تفقد صلاحيتها، وتتدمر تلك السمعة، بل وأحياناً تُبرم ضدها[3]. وسبب حدوث هذا وتدهور السمعة يتطلب تحقيقا منفصلا، لكن ينبه المجتهد على إفراغ عقله من هذه السمعات أثناء الاستدلال، لأن آراء السلف، وخاصة إذا انتشرت في العقل والثقافة الشعبية، يمكن أن تسبب الانحياز وعدم الفهم الصحيح للأدلة.
هذه المذكرة جزء من المجلة الإلكترونية “مبادئ فقه الفن” التي تم إصدارها بالتعاون مع مدرسة فقه الفن وموقع شبكة الاجتهاد.
[1] كما جاء في بعض الأحاديث: «كل إمام هادي للقرن فيهم».الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج ١، ص ١٩١.
[2]. فمثلاً قال الإمام المهدي صلى عجل الله فرجه الشريف رداً على من سأل عن الأحاديث الدالة على كراهية الصلاة أمام النار: إن هذا النهي متعلق بالأشخاص الذين كان آبائهم عبدة النار. (احتجاج الطبرسي ج ٢ ص ٤٨٠) وإن كانت تلك الأحاديث مطلقة في هذا الباب، فمثلا: “قال أبي الحسن عليه السلام: سألته عن الرجل يصلي والسراج موضوع بين يديه في القبلة قال لايصلح له أن يستقبل النار ” ( وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج ٥ ص ١٦٦)
[3] فمثلاً المشهور قديماً الاحتفاظ بالتمثال حراماً، بينما شاع بين المعاصرين فهو حلال. (منهاج الفقاهه، الروحاني، ج ٤، ص ٢٦٦) أو المشهور عند القدماء، هو وجوب قضاء الصلاة فورا، والمشهور عند المتأخرين، ليس بواجب فوري. (مباني منهاج الصالحين، القمي، ج٥، ص١٢٦) أو عند القدماء تعيين التسبيح في الركوع والسجود، أما عند المتأخرين فهو الاكتفاء المطلق بالذكر. (فقه الصادق، الروحاني، ج ٢٢، ص ٣٢٣)