ملاحظة: من بين فروع الفقه الناشئة التي يشار إليها بعناوين مثل الفقه المعاصر، أو فقه النظم، أو…، بعضها، مثل الفقه الاقتصادي والسياسي، له تاريخ أطول وله خلفية بحثية مناسبة، وبعضها، مثل الفقه البيئي، لا يزال يعيش كطفل حديث الولادة. وفي الوقت نفسه، يرى حجة الإسلام والمسلمين محمد كاظم حقاني فضل، مدير موسوعة الفقه المعاصر، أن ما تسبب في طفولة الفقه البيئي هو البيئة التي يعيش فيها علم الفقه. وإن هذه الملاحظة الشيقة والقابلة للقراءة من هذا الأستاذ من المستويات العليا في حوزة قم هي كما يلي؛
إن علم الفقه، باعتباره علماً مسؤولاً عن تنظيم تصرفات المكلفين، يسعى في الواقع إلى تنظيم سلوك الإنسان. ويجد هذا التنظيم معناه في أربعة جوانب متداخلة، وهي العلاقة بين الإنسان والله، والعلاقة بين الإنسان ونفسه، والعلاقة بين الإنسان والآخرين، والعلاقة بين الإنسان والطبيعة. ووفقاً للنظرية الإسلامية، فقد صدرت الأوامر الإلهية بهدف التوفيق بين هذه الجوانب الأربعة وبما يتماشى مع الكمال الإنساني. وتدرس العلاقة بين الإنسان والطبيعة اليوم في شكل قضايا بيئية. كما تم النظر في العناصر التي تشكل البيئة، مثل الماء والهواء والتربة والنبات والحيوان وما شابه ذلك، في الفقه الإسلامي، وأحياناً صدرت أحكام بشأنها. وهذه القضايا متضمنة في عدة أبواب فقهية، مثل تحريم تلويث وتسميم الماء وقلع الشجر في الحروب، وهو من أبواب الجهاد في كتب الفقه، ولكن لا يوجد في أي من كتب الفقه المشهورة، سواء عند الشيعة أو عند غيرهم من المذاهب الإسلامية، باب خاص بقضايا البيئة، كما لا يوجد في كتب الحديث شيء يسمى حديث البيئة٠
إن القضايا التي ينظر فيها الفقهاء تكون أحياناً قضايا دينية بحتة، كالصلاة والصيام ونحوهما، وأحياناً تكون قضايا يتعامل معها المؤمنون في حياتهم اليومية، كالأكل والشرب والعلاقات الجنسية والبيع والشراء ونحوها، وقد علق عليها الشارع مباشرة، وفي التعامل مع هذه القضايا تعتبر المعرفة الفقهية معرفة أساسية تشرح نفسها والموضوع وحكمه ومتطلباته٠
كما أن هناك بعض القضايا التي ليست حاضرة مباشرة في نص القرآن والحديث، ولا لها اتصال مستمر بالقضايا المذكورة، ولكنها حاضرة في الحياة اليومية، وأسئلة المؤمنين للفقهاء تمهد الطريق لدخول هذه القضايا في دائرة الفقه، وعدد هذه القضايا غير المتوقعة في العصر الحديث يتزايد، وبعض هذه القضايا جديدة ومبتكرة بشكل أساسي، مثل العديد من الأدوات التكنولوجية أو الطرق العلاجية والطبية الجديدة التي هي نتيجة لنمو المعرفة التجريبية في العصر الحديث. في هذا الجزء من القضايا لا يلعب علم الفقه دور التأسيس، بل هو مجرد مستهلك وتابع، والفقه مسؤول فقط عن التعبير عن الحكم ولا يمكنه التدخل في إنشاء أو تعريف أو تحديد هذه القضية٠
هناك مجموعة أخرى من الأسئلة التي تواجه الفقهاء تولد من الصراعات الحتمية في حياة الإنسان، سواء صراعات بين قضايا المجموعة الأولى أو قضايا المجموعة الثانية. ولكن النقطة المهمة هي أن بعض هذه الصراعات والتداخلات لم يكن من الممكن أن تنشأ وتبرز في عصر ما قبل الحداثة٠
يبدو أن قضية البيئة هي إحدى المشاكل التي هي نتيجة للتطور بعد الثورة الصناعية وتدخل مجالات مختلفة من حياة الإنسان، مثل تدمير الغابات أو تلوث الهواء في مدينة يسكنها عدة ملايين من البشر. فقبل تطور التكنولوجيا لم يكن للإنسانية القدرة على استخدام الطبيعة واستهلاكها بشكل مدمر. وما حدث في العالم الحديث، إن التزايد السكاني والحاجة المتزايدة للموارد الطبيعية ونمو التكنولوجيا والسرعة المذهلة في استخدام هذه الموارد، لم يكن من الممكن التنبؤ بها حتى في الأيام الأولى من العصر الحديث، لأن المعرفة والخبرة البشرية لم تكن لديها القدرة على التنبؤ بمثل هذا المستقبل. ورغم أنه من الممكن تصور مشاكل كان من الممكن إدراكها، إلا أنه لم يكن من الممكن للإنسان أن يلاحظها، مثل انقراض أنواع معينة من الحيوانات أو النباتات، والتي بسبب انعدام التواصل وحياة الإنسان المحدودة لا يمكن لأحد أن يعرف كم عدد كل حيوان حي؟ وهل يواجه حيوان معين الانقراض أم لا؟ كما يجب اعتبار الفقه الإسلامي في هذا المجال علمًا “تابعًا” لا يمكنه التنبؤ بالقضايا، بل إن أحداث الحياة هي التي تخلق هذه القضايا وتضعها أمام الملزمين والمقلدين والفقهاء٠
لذلك لا يمكن أن نتوقع من الفقهاء أن يفتحوا في تنظيم علم الفقه باباً يسمى باب البيئة، مع أن الروايات الإسلامية تتضمن توصيات في كيفية التعامل مع الحيوان أو النبات أو الماء وما شابه ذلك، ولكن مستوى هذه الروايات ليس بالضرورة شيئاً يسمى البيئة٠
إن الفقه في الأساس ينظر إلى العالم من منظور حياة الإنسان، لأن موضوعه هو أفعال المكلفين. بل إن الفقه ينظر إلى حقوق المكلفين من منظور الواجب. ولذلك لا يمكن أن نجد فيه باباً موضوعه الماء أو النبات أو الحيوان أو الهواء أو التكنولوجيا أو الآلات أو أي موضوع آخر لا يتعلق مباشرة بالإنسان وسلوكه٠
هناك نقطة أخرى يمكن اعتبارها عائقاً أمام نشوء الفقه البيئي، وهي أصالة الإباحة. فبحسب المبادئ الأساسية للفقه الإسلامي، يتمتع الإنسان بحرية استخدام الهبات الإلهية. وحدود هذه الحرية هي حقوق الآخرين، أو الإضرار بالنفس أو بالآخرين، أو الحرمة الأولية لبعض هذه الهبات. وكان التدخل في حقوق الآخرين في العالم الصغير الذي عاش فيه القدماء صغيراً ومحدوداً إلى درجة أنه لم يتطلب إنشاء علم جديد أو إضافة قسم جديد إلى الفقه. وكان توسع الاتصالات والعولمة هو الذي جعل البشرية تدرك الآثار المدمرة لمواجهتها للطبيعة والبيئة٠
أما علم الفقه، من ناحية أخرى، فهو يرتكز على نوع معين من الكلام، نتاجه عدم الاهتمام بالبيئة. وفي الفقه الإسلامي، خلق الله الطبيعة بطريقة منظمة وهادفة، للإنسان، بما يتماشى مع احتياجات الإنسان، ويكفي هذه الاحتياجات، وإذا لوحظ أي قصور في بعض الأوقات والأماكن، فذلك بسبب ظلم الظالمين أو امتحان إلهي أو عقوبة لأفعال المؤمنين. والله على دراية باحتياجات الإنسان اليوم والغد وقد خلق العالم بناءً على هذا الوعي. ويمكن أن يكون هذا الدعم الالهي أساسًا لعدم الاهتمام بالبيئة؛ والخلق يعطيك كل ما على الأرض. في هذه النظرة الالهية، تم تجاهل قوة الإنسان التدميرية على الطبيعة، وكان يُعتقد أن الله، الذي يضمن رزق الإنسان، سيمنع بنفسه تدمير الموارد الطبيعية بشكل خارق للطبيعة٠
بالمحصلة يمكن تحديد عدة عوامل رئيسية منها: العقيدة التي كانت تعتقد أن الطبيعة لا يمكن أن تدمر إلا بإرادة الله المباشرة، ومركزية الإنسان الملزم في الفقه، وحصر استخدام الموارد الطبيعية في قوت قلة من السكان، وعدم القدرة على إدراك تأثير الاحتلال الواسع النطاق على البيئة، وحقيقة أن جميع المشاكل البيئية نشأت بعد قرون من زمن المشرع، خلقت بيئة فقهية يبدو فيها غياب فصل عن “البيئة” أمرا طبيعيا٠
هذه المقالة جزء من ملف “مبادئ فقه البيئة والموارد الطبيعية” وسيتم إعدادها ونشرها بالتعاون مع شبكة الاجتهاد٠