الأستاذ السيد محمد علي الأيازي

لنتحدث عما يقوله القرآن ولا نقول عما لا يقوله

لماذا يستخدم أغلب الفقهاء الأدلة مثل طريقة التفكير، واكتشافات العلوم الأخرى، وحكم العقل، ومقاصد الشريعة في الحجج الفقهية؟

السيد الأيازي: لدينا في هذا الصدد مشكلة تاريخية وثقافية ومنهجية. وفي مجال التاريخ ينبغي القول إن الأخباريين غطوا المساحة الواسعة التي أثارها الأخباريون في نقد الاجتهاد والعقلانية بشكل مفصل وعميق بحيث لا تزال هذه القضية في كل مجال. وقد أدى هذا التفكير إلى عدم اهتمام الفقهاء بآيات القرآن. و يقول المرحوم الطباطبائي في المجلد الخامس من الميزان في تفسير القرآن: إذا نظرت إلى أقوال الفقهاء من أول الفقه إلى آخره رأيت أنهم يستدلون دون الرجوع إلى القرآن. هذا مع أن ارتباط الفقهاء مع القرآن قبل الأخباريين لم يكن هكذا٠

ويبدو أن مشكلة الجدال مع القرآن هي في إثبات موقف اللفظ والدلالة، وليس مشكلة المنهج الخبري؟

السيد الأيازي: كلا، هذه تقارير إخبارية. لدينا حالات كثيرة يقلب فيها الفقهاء الرواية رأساً على عقب من حيث المستندات؛ ولكنهم لا يلتفتون إلى آيات القرآن المتعلقة به؛ فمثلاً لم ينتبهوا إلى أن هذه الرواية تتعارض مع القرآن، أو أنه لا يمكن إسناد العموم القرآني إلى هذه الرواية. و تقودنا هذه الحالات إلى النقطة التي واجهنا فيها هذه المشكلة تاريخياً٠

المشكلة الثانية: من حيث الطريقة. وهنا أمامنا مشكلتان: إحداهما أن الفقه له عموميات لا تتناسب مع موضوعية المسألة. وعندما ذهبنا إلى آية الله المنتظري لبدء مناقشة الأصول لم يقبلها واعتبر سببها تضخم علم الأصول والفجوة بين مضامينه و هيمنة الاستدلال٠

فعلى سبيل المثال، من مسائل معرفة الأصول أن يكون موضوع الحكم مأخوذاً من العرف. وعندما يتغير الموضوع، لا يعود الحكم كما كان في السابق. فمثلاً ينبغي للمرء أن يسأل الفقيه ما هو تعريف الزواج اليوم وماذا كان عند الفقهاء القدماء؟ في الماضي، كان المهر يعتبر مهرًا حقيقيا، وكان تجهيز المهر يعني حيازة المهر. والسؤال الآن هو: هل يجب على المرأة أن تطيع ما أراد الرجل منها؟ في الفقه الموجود الجواب نعم؛ لكن هذا ليس هو الحال في مجتمعنا اليوم، بل إن عرف العصر الحاضر يرى في الزواج حياة مشتركة، وليس مجرد بيع وشراء بين الزوجين. ولهذا السبب، تغيرت أيضًا قضايا مثل مغادرة المنزل والتعليم للمرأة. و اليوم، إذا أعطى المرجع ابنته لشخص ما ومنعها ذلك الشخص من الذهاب إلى بيت والدها، ألا يقول إنه يظلمها؟ نفس المشكلة موجودة فيما يتعلق بالامتثال؛ ولذلك يقال في علم الأصول أن المسألة ينبغي أن تؤخذ من العرف، ولكن عندما نرجع إلى الفقه ندرك أن الأمر ليس كذلك٠

صحيح أن الموضوع لا يتغير؛ بل الظروف والتعقيدات هي التي تغيرت. الطاعة هي نفسها؛ لكن الحدود والفجوات هي التي تغيرت٠

أيازي: لا، في ذلك الوقت كان الزواج يعني بيع وشراء، لكن اليوم الزواج هو عهد للالتزام بالحياة المشتركة، لذلك تغير الموضوع جذريا٠

فيوجد مثال آخر هو مسألة الطفلة الصغيرة، حيث يرى جميع الفقهاء أن السن المسموح به للزواج هو 9 سنوات، على الرغم من أنهم يعتبرون الزواج قبل هذا السن مباحًا أيضًا. لكن هل آلان هو مستعد لزواج ابنته البالغة من العمر 13 عامًا إذا طلب يدها شخصا نت؟ بالمعنى السليم، مثل هذه الفتاة هي طفلة؛ أما في الفقه فلا يعتبرونه قاصراً؛ ولذلك ابتعد فقهنا عن واقعه الاجتماعي. وبالطبع، ليست هذه هي الأسس الوحيدة التي ذكرتها والتي تحتاج إلى دراسة في الفقه المعاصر؛ بل ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار أيضا أشياء مثل عدم الظلم في الفتوى، أو حسب المرحوم المطهري العدالة، أو حسب آية الله منتظري مبدأ الكرامة الإنسانية، أو حسب فضل الله مبدأ الإرادة الإنسانية الحرة. هذه المبادئ تسبق كل الحجج. وبطبيعة الحال، في رأيي، هذه النقاط موجودة في عقلية الفقهاء؛ لكن في الممارسة العملية لا يتدخلون٠

والمشكلة الثالثة هي أن فقهنا اليوم، للأسف، مقلد، ولا يخرج عن إطاره لدراسة المسائل. هذا في حين أن المرحوم الأصفهاني يطرح الجمال المتأصل والقبح في هامش كفاية ويعتبره صحيحاً؛ وهذا يعني أن شيئًا ما قد يكون قبيحًا في يوم ما وليس في يوم آخر. وللراحم الطباطبائي نفس القصة أيضاً. وهذا أمر واضح جدًا ويظهر بوضوح في مسألة العبودية٠

وينتقد المرحوم آية الله الصدر هذه النظرية القائلة بأن الشرع الذي هو رأس المثقفين قد يفهم شيئاً لا يفهمه المثقفون؛ ولذلك فليس بالضرورة أن يفكر الشرع ويعطي رأياً يوافق العقل٠

أيازي: مقالته هذه غير صحيحة؛ لأنه أولاً وقبل كل شيء، إذا كان القائد عقلانيًا، فلن يتمكن من القيام بعمل الإخلاص؛ بل عليه أن يأتي بنقطة يمكن فهمها عقلانيا. بالطبع، في الأمور التعبدية، يمكنه إحضار محتوى غير عقلاني؛ أما في الأمور العقلانية فلا يجوز له أن يقول شيئا مخالفا لرأي العقلاء٠

وقولك إن الله يجب أن يفكر مثلنا في الأمور العقلانية وغير التعبدية، وهو بالتأكيد يفكر ويعمل مثلنا، هو في الحقيقة تقييد لله، وهذا لا يبدو صحيحا٠

أيازي: الجوهر الإلهي لا يقتصر على فهمنا وهو رأس العقل، لكن لا ينبغي أن يقول شيئًا لا نفهمه؛ بل ينبغي له أن يتكلم بطريقة نفهمها٠

فمن الكلام أن الشرع يجب أن يتكلم بلغة يفهمها الناس ويصدرونها، وليس الكلام في مقام الحجة؛ بل هو أساس مناقشة البرهان، أي هل يفكر الشرع كعاقل في موقف الباطل والتشريع أم لا؟

أيازي: لا، الأمر نفسه في التشريع. عندما يريد الشرع أن يضع قانوناً، عليه أن يتكلم بطريقة يفهمونها عقلانياً؛ ولذلك إذا حكم لسبب غيبي على خلاف رأي العقل، فلا يجب على العقلاء العمل به، إذا كان عندما يتكلم في آيات الصفات والاعتقاد نبني أفعالنا على ما نحن نفهم ولسنا ملزمين بفعل أكثر من ذلك. ويجب أن يكون الأمر كذلك في أحكام الشريعة أيضًا، لذلك ليس من كرامة الله أن نفعل شيئًا يتجاوز فهمنا٠

فهل يمكن اعتبار أحد الأسباب القليلة التي تدفع الفقهاء لاستخدام الأدلة غير اللفظية في عمليات الاستدلال، هو النتائج الفقهية النادرة التي يتم الحصول عليها من خلال العمل بهذه الأدلة اللفظية؟

أيازي: المشكلة في الأساس تكمن في أمرين: إما أن هذه المواضيع لم تُعطى حقها ولم تتم مناقشتها بشكل سليم ومناسب، أو لم يتم تحديد حدودها ونقاط ضعفها. فمثلاً، ألغوا أصلاً الحديث عن القياس، أما قياس الأولويات وقياس منسوس العلا أو الاستقراء والتكرار فكلها جزء إلى جزء حاملة للعلم. وفي المائة سنة الأخيرة ظلت مواضيع الأسباب والمقاصد تناقش بين الفقهاء، بينما لم تناقش في علم الأصول ولا حدود لها٠

والنقطة الأخرى الموجودة هي تطبيق أقوال القرآن التي تتم مناقشتها؛ ولكن ليس هناك مناقشة لما لم يقله القرآن. فمثلاً يطرح هذا السؤال، لماذا لم يرد في القرآن الأحكام التي اختلف عليها آلان، مثل المساواة في المهر بين المسلمين والكفار، أو أحكام المرأة الخاصة في الميراث أو غيره؟ ؟ وليس من الضروري أن يكون القرآن مائة مجلد لو ذكر، لأنه بدلا من أن يروي قصة النبي موسى 52 مرة، كان بإمكان الله أن يختصرها مرة واحدة ويبين الحكم في هذه الحالات. ومن خلال عدم قوله، من الواضح أن ما لم يقله لم يكن في الأساس ما كان يقصده ولم يكن مزيفًا، لذلك لم يقله. في أيامنا هذه، إذا لم يقل الشيء، فإن العقلاء يحتجون بأنه إذا لم يقل فهو غير مقصود٠

سبب عدم معالجة بعض المواضيع والأدلة الجديدة هو عدم تنظيمها، في حين أن الأمر على العكس من ذلك. وفي مثال 4 فراسخ، وهو دقيق مثلاً، ما مدى الاختلاف، في حين أن مسار النهار أو روايات اليوم والليلة هي 4 فراسخ في ذلك الوقت، وهو بهذا القدر، ومع هذا الحساب، هل هو مبلغ آخر؟

كما أن من أسباب عدم الاهتمام بالأدلة الجديدة كالنيات أن يتجدد الفقه، لكن ما المشكلة إذا أصبح الفقه جديدا؟ إنهم لا يريدون أن يأخذوا عناء إعطاء القواعد، وبما أنه تم اقتراح نفس القواعد فقط من قبل، فإنهم يكررونها ذهابًا وإيابًا. هذه المخاوف والأهوال في غير محلها جعلتهم لا يتطرقون إلى الأدلة الجديدة والقضايا الجديدة، أو حتى عدم ذكر القرآن.

وهناك أيضًا مشكلة الصراع بين التقليد والقداسة، مما سبب مشاكل٠

ولذلك فإن الفقه اليوم يعاني من مشكلة نفسية، ولا يملك الشجاعة والإقدام الذي ينبغي أن يتحلى به، ولا يدخل في مواجهة هذه القضايا كما ينبغي. ومن ثم نخلق مشكلة للناس ولا نرى هل تحل هذه الفتوى المشكلة أم تزيد المشكلة. فمثلاً، بعد شهر من الصيام والعبادة، ننزع حلاوة عيد الفطر عن الناس بهذه الفتاوى المختلفة، بحيث يكون الصيام في نفس البيت واجباً على شخص ومحرماً على آخر٠

والفقه اليوم ليس إنذارا، أي أن الفتوى أحيانا تؤدي إلى إلغاء الحكم، مما يؤدي إلى عدم تنفيذ الحكم، وأحيانا يصبح الأمر بلا معنى. ويكتب المرحوم المطهري عن وصية المشهور والنهي عن النفي، أنه إذا لم يتم اتباع منطقه فسيكون له تأثير عكسي. ومنطقها هو تحقيق الهدف الشرعي، ولذلك اقترحوا الأثر لهذا السبب. ويضربون مثالاً على أنهم رأوا أن القمار بين النساء قد زاد في أمريكا. في العديد من الاجتماعات، جاء علماء الاجتماع والقساوسة وعقدوا اجتماعات مفادها أنه لا ينبغي القيام بذلك؛ ولكن لم يكن لها أي تأثير. ثم جاءت مجموعة وتدقيقت ورأوا أنهم عاطلون عن العمل، فخلقت فرص عمل وخرجوا من البطالة ورأوا أنه بعد عامين، تم حل هذه المشكلة بشكل أساسي. ومن المعروف أن لها منطقًا ويجب أن تكون فعالة. أما في حالة الفتوى فلا بد من المنطق. وهي نفس المسألة فيما يتعلق بالحجاب، فتوى وجوب لبس الحجاب، إذا لم يتم اتباع منطقها، فإنها تعمل في الاتجاه المعاكس، وتصبح الفتوى بلا معنى؛ ولذلك، إذا لم يتمكن فقهنا من حل هذه المشاكل، فسيصبح الفقه غير شخصي ومعزول٠

وهل يمكن اعتبار أن أحد الأسباب القليلة التي تدفع الفقهاء لاستخدام نتائج العلوم الأخرى في الاستدلالات الفقهية هو فكرة تفوق الفقه على العلوم الأخرى من وجهة نظرهم؟

أيازي: هنا ثلاث نقاط

النقطة الأولى هي نفسية شخصية الفقيه. وبحسب الشهيد مطهري، وفقيه الريف وفقيه الحضر، فإن فتاواهما مختلفة. ومن الناحية النفسية فإن شخصية الفقيه مؤثرة في فتواه٠

النقطة الثانية: الخصائص الاجتماعية لقم والنجف لا تدخل في هذا المجال. وإذا اعتبرنا هذه الشروط مؤثرة فالأمر مختلف. فمثلاً صاحب هذه الجوهرة كان فقيهاً عربياً كبيراً، وكان حساساً جداً للعجايم. ويوضح في حالة الشيخ الطوسي أن هذا هو فقه العجم. وهذه الرؤية التي يراها في نفسه مؤثرة في نوع الحجة نتيجتها٠

النقطة الثالثة: الفقه يحتاج أيضاً إلى علم النفس كما يحتاج إلى الرجوع إلى الألفاظ والألفاظ، والمبادئ، والمنطق، والمتن، والفلك. فمثلاً لدينا عن زيد شحام الذي لأنه كان بائع الشحم قدم الأحكام بطريقة خاصة. وفي قضايا مثل حكم المتحولين جنسيا ومزدوجي التوجه الجنسي، فإن إحالة الفقيه إلى الأطباء النفسيين ستغير فتواه٠

هذه المقالة جزء من ملف “الأدلة الجديدة في الفقه المعاصر” وسيتم إعدادها ونشرها بالتعاون مع شبكة أجنهاد.