لقد لبس الناس الكمامات لمدة عامين لتجنب مرض الكورونا، وارتداء هذا الكمام أدى إلى تفاقم المرض وفي الأمد البعيد سيظهر آثاره غير المرغوبة. والعاقل يدرك أن هذا يجب أن يتم في الوقت الحاضر. ولكن ليس من الواضح ما إذا كان هذا الحكم دائمًا ومرغوبًا فيه دائمًا. فعلى سبيل المثال، يتصرف العقلاني بسرعة ويستخدم لقاح كورونا. ولكن في الأمد البعيد لا يمكننا التنبؤ بالآثار الدائمة والآثار التي سيخلفها هذا اللقاح في المستقبل. ويستغرق الأمر سنوات لفهمه عقلانيًا وفهم جميع أبعاده والقدرة على إعطاء حكم غير كامل ولكنه موثوق. وهذا يؤكد أن بنية العقل وحكم العقل مختلفان٠
ملاحظة: أثار البحث في الفقه المعاصر والقضايا الناشئة التي أثيرت في هذه الفصول الفقهية الناشئة حديثًا أسئلة جديدة. ان أحد هذه الأسئلة هو ما إذا كان من الممكن استخدام الأدلة التقليدية لمعرفة مبادئ الفقه لتحقيق نتائج فعالة في استنباط قضايا الفقه المعاصر أم أننا نحتاج من أجل الإجابة على هذه الأسئلة بشكل مناسب وفعال إلى إضافة أدلة جديدة مثل السلوك العقلي المتطور حديثًا؟ لقد أثيرت صحة السلوك العقلي المتطور حديثًا بشكل جدي بين علماء الفقه لعدة عقود ووجدت أيضًا مؤيدين. في هذا الصدد، تحدثنا مع آية الله محمد قائني نجفي، أستاذ بارز في الفقه والأصول في حوزة قم. على الرغم من أنه ركز دروسه وكتاباته على الفقه المعاصر لسنوات، إلا أنه لا يقبل حجية السير المخترعة عقليًا. في رأيه، بما أنه من غير الممكن اكتشاف موافقة المشرع في هذه السير، فإن حجية هذه السير أيضًا غير ممكنة. وفيما يلي مناقشة مفصلة مع هذا الأستاذ البارز في الحوزة العلمية بقم؛
يرى المرحوم العلامة الطباطبائي والإمام الخميني المرحوم أن عدم وجود مرجعية ذاتية للسيرة يستلزم خلل النظام. فما رأيكم في هذا الاستدلال؟
الأستاذ قائني: السيرة تستعمل عادة كحجة بسبب توقيع الشارع، ومعنى توقيع الشارع أنه يحتمل الرد، وإلا فإن الشارع إذا قيد في هذا الموضع كان ذلك خلافا للقاعدة المعروفة وهي أن موافقة الشارع تكون بتوقيعه، وعلى هذا فالفرق واضح بين حكم العقل وتفسير العقل، فما يوافقه الشارع هو حكم العقل، أما صحة سلوك الشارع فهي مقتصرة على قبوله من الشارع، فالشارع لا يقبل اختلال النظام بأي حال من الأحوال، ولكن ليس من الضروري أن تقتضي معارضة سلوك الشارع اختلال النظام.
فإذا ارتكبوا ظلمًا بعقلانية؛ فمثلاً عندهم نظام اسمه العبودية والمشرع يريد إيقافه، ومنعه سيؤدي حتماً إلى خلل النظام. أليس هذا صحيحا؟
السيد قائني: عدم الردع فيما لا يقبل الخطأ في الظاهر والمسموع، وذلك على الوجه الاعتيادي لا في علم الغيب، دالاً على موافقة رأي الشارع وموافقته، أما في الطرق المستحدثة، فلما لم نستطع اكتشاف ذلك، فلا نعتبرها صحيحة. والطريق المستحدث لا يحتمل التوقيع والردع، ولا يوجد لدينا سبب يجعلنا نعتبر شيئاً دليلاً بالضرورة. والمقياس والمعيار للدليل واضح، وهو توقيع الشارع، وغير ذلك لا ينسب إلى الشارع شيء٠
هل يمكن اعتبار وعد رجوع قواعد العقل العملي إلى الطرق العقلية مرتبطاً بوعد السلطة الذاتية للطرق المستحدثة؟
السيد قائني: لا، ليس الأمر كذلك أبداً. فهذان لهما معياران مختلفان. حتى العقلاء أنفسهم يفرقون بين طرقهم وأحكامهم العقلية، نعم إنها مبنية على الاعتراف بالحكم التي يدركها العقل، ولكنها غير مضمونة ولا صحيحة٠
السبب الذي جعلهم يسوقون هذه العودة هو أن العقلاء في العالم أجمع إذا اتفقوا على قاعدة وعملوا بها، فلا بد أن يشير هذا الإجماع إلى شيء مشترك بينهم جميعاً. ومن ناحية أخرى، فإن الشيء الوحيد المشترك بين الجميع عقلياً هو عقولهم فقط، لأن الدين والعادات والتقاليد والمتطلبات القومية والجغرافية وما إلى ذلك ليست كلها واحدة في كل شيء عقلياً؛ لذلك فإن عودة الطرق العقلية بحكم العقل٠
هل الادعاء بصحة السلوكيات المخترعة عقلانيا يرتبط بالادعاء بصحة السلوك الأصيلة، أم يمكن جعله مشروطا بالموافقة على المتطلبات القطعية للمشرع، أو على الأقل عدم معارضة الأغراض القطعية للقانون، رغم الادعاء بصحة السلوكيات المخترعة؟
الأستاذ قائني: بخلاف العصمة، إذا كان لها أساس، فهي مبنية على الاعتراف بالفوائد التي توفرها. ومن ناحية أخرى، قد لا تشمل في اعترافها جميع الجوانب. ومع مراعاة هذا، فمن الممكن أن يشمل المشرع، وهو العقل الكلي، نقطة قد يهملها العقلاء. ومن أمثلة ذلك القياس والاستحسان، الذين لا يبعد أن يكونا من العادات العقلية عند بعض الناس، ولكنهما ليسا دليلاً في الشريعة الإسلامية٠
من الواضح أن الحديث لا يكون إلا عند بعض الناس، ولا يكون مبنياً على حكم العقل قطعاً؛ لأنه لو كان مبنياً على حكم العقل لوجب أن يتفق عليه الجميع عقلاً، لا بعضهم. ولكن الخلاف هو أن يتفق الجميع عقلاً على شيء. مثلاً حديثهم مبني على أن ضرب اليتيم للتأديب قبيح. فهل لهذا الحديث في هذه الحالة دليل غير حكم العقل؟
الأستاذ قائني: هذه الحالات هي حالات حكم العقل، وليست سنة. لا شك أن الحديث إذا كان مبنياً على حكم العقل فلا شك في صحته. ولكن هذا لا علاقة له بأصل العقل، بل هو حكم عقل اتبعه العقل، فلا شك في صحة هذا الحكم، ولا حاجة إلى الامتناع عن هذه الأمور. والحديث يدور حول التقليد الذي هو محل خطأ وغلط، مثل استناد العقل إلى صحة الشيء أو صحة خبر واحد٠
هناك حالات يقبلها كل العقلاء ويتصرفون على أساسها، ومن ناحية أخرى لا يخطر على بال أحد ما يجعل الشارع يمتنع عن السيرة، وعودة هذه السيرة تكون وفق مقتضيات العقل. مثل لبس الكمامات في فترة الكورونا، وهي السيرة، ومقتضاها مقتضيات العقل في ضرورة حماية الجسم من الأمراض. فهل يمكن الحكم عقلاً بصحة السيرة أصلاً؟
الأستاذ قائني: لبس الناس الكمامات لمدة عامين لتجنب المرض، وتفاقم المرض في هذا الكمام، وفي الأمد البعيد سيظهر أيضاً آثاره غير المرغوبة. والعقلانيون يدركون أن هذا يجب أن يتم في الوقت الحالي، ولكن ليس من الواضح ما إذا كان هذا الحكم دائماً ومرغوباً فيه دائماً. فعلى سبيل المثال، يتصرف العقلاء بسرعة ويستخدمون لقاح الكورونا؛ ولكن على المدى البعيد لا نستطيع أن نتنبأ بالآثار الدائمة والآثار التي سيخلفها هذا اللقاح في المستقبل، ويستغرق الأمر سنوات لفهمه عقلانيًا وإدراك جميع أبعاده والقدرة على إصدار حكم غير كامل ولكنه موثوق. وهذا يؤكد أن بنية العقل وحكم العقل مختلفان؛ لأنه فيما يتعلق بحكم العقل لا توجد مثل هذه المراجعات، ولكن حتى لو مرت آلاف السنين، فإن العدل لا يزال واجبًا والظلم قبيحًا ومحرمًا٠
في الأمور غير الشرعية التي لم يرتبها الشارع واقتصر على بيان العمومات أو الجزئيات وقبل طريقة العقل، إذا أردنا أن نطلب التوقيع والرد، ألا يكون ذلك مخالفة لروايات مثل: (اسكتوا عما سكت الله)؟
الأستاذ قائني: ليس لنا في الشارع من سكت حكم، بل له الحكم في كل مكان. وسكوت الشارع في بعض الأحوال دليل على قبوله لا على اتباعه، ومعنى ذلك أن هذه المسألة تحمل توقيع الشارع لا على اتباعه. وبعبارة أخرى فإن قبول الشارع لبعض الطرق العقلية ليس لأنه أراد أن “يتبع” العرف، بل هو تعبير عن أنه في هذه الأحوال يجب العمل برأي العرف، ورأي العرف موافق لرأي الشارع٠
– ألا تعني الحجج مثل “اسكتوا عما سكت الله عنه” أو “لا تسألوا عن الأشياء” أن عدم الامتناع كافٍ لإثبات صحة السيرة؟
الأستاذ قائني: هذه الروايات صدرت في حق من جاء وسألهم مع وجود سبب كالإطلاق أو العصمة، وقد ورد في الروايات أنه لو لم يسألوا ولم يقسوا على أنفسهم لكان الحكم المطلق كافياً، فلا علاقة لذلك بكفاية عدم الامتناع عن الحصول على توقيع السيرة٠
بالنظر إلى هذه الرواية “علينا القاء الأصول وعليكم التفريع” بالإضافة إلى علم الإمام بالغيب، الذي علم بظهور تطور في حياة الإنسان وظهور قضايا جديدة في المجتمع، هل يمكن أن نستنتج أن القسم حجة؟
الأستاذ قائني: التفريع عهد إلينا، ولكن التشريع لم عهد إلينا. التفريع لا يعني التشريع، فمثلا ورد في الآية الكريمة: (إذا ضربتم في الأرض ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة)، والآن تغيرت أدوات السيرة؛ ولكن هذا لم يغير الحكم، والسفر بوسائل متطورة لم تكن تخطر على بال أهل ذلك الزمان ويخضع لهذا الحكم أيضا. والتفريع يعني أننا لا نستمد حكما من أنفسنا٠
التفريع قد يكون تشريعا أيضا، فمثلا يأمر المشرع بأخذ الدواء من أجل المحافظة على صحة الجسم، ومن ناحية أخرى يرى الإنسان أن شرب الخمر يساعد على صحته ويحل مشكلة الكلى لديه، فهل هذا تشريع أم تفريع؟
الأستاذ قائني: هذا تشريع؛ لأن شرب الخمر من المحرمات٠
هذه المقالة جزء من ملف “أدلة جديدة في الفقه المعاصر” المعد وينشر بالتعاون مع شبكة الاجتهاد٠