إن الإسلام يقبل تقسيم الأفراد في المجتمع إلى مسلمين وكفار، إلا أنه في مجالات مهمة يعترف بحقوق الكفار؛ لذلك فإن تقسيمهم إلى مسلمين وكفار لا يعني تجاهل حقوق الكفار، حتى وإن كانوا أقلية٠
ملاحظة: إن أحد التحديات التي تواجه الفقه الناشئ هو مدى فعالية قواعد المعرفة الحالية لأصول الفقه في اكتشاف الطروحات الفعالة منها. لذلك يرى بعض الأصوليين أن الطروحات الحالية لأصول الفقه والنهج الحالي للأصوليين في حل القضايا الفقهية فعالة، بينما يرى آخرون أن إنتاج الطروحات الفقهية العملية والفعالة في الفقه الناشئ يتطلب مراجعة قواعد المعرفة ونهج الأصوليين في هذه المعرفة. وفي هذا الصدد جلسنا للحديث مع السيد حميد جزائري، وهو أستاذ الفقه والأصول في حوزة قم، معروف بدقته وبصيرته في علم الأصول، فضلاً عن اهتمامه بالمواضيع الجديدة والفقه الناشئ. وهذه الصفات تجعله من أفضل الأشخاص لمناقشة هذا الموضوع. وفيما يلي مناقشة مفصلة مع هذا الأستاذ في الفقه والأصول في حوزة قم٠
ما هو فقه حقوق المواطنة وما هي متطلباته؟
السيد جزائري: حقوق المواطنة تعني أن يتمتع الأشخاص الذين يعيشون في مجتمع وفي بيئة اجتماعية بسلسلة من الامتيازات في مقابل الواجبات التي يتحملونها. وبطبيعة الحال، قد تختلف هذه الامتيازات والواجبات في الأنظمة القانونية المختلفة؛ ولكن عموم حقوق المواطنة تعني التمتع بامتيازات أعضاء المجتمع في مقابل الواجبات التي يتحملونها؛ مثل: الحق في التمتع بالسلام الاجتماعي، والحق في التعليم والتربية، والحق في التمتع بالحرية المشروعة دون انتهاك أسس الدين وحرية الآخرين، والحق في التمتع بالنعم العامة التي وفرها الله للمجتمع. وهو أحد الأمثلة المهمة لحقوق المواطنة٠
إن ضمان هذه الحقوق هو بالطبع مسؤولية القوى الحاكمة. لذا، يجب على القوة الحاكمة في المجتمع أن توفر الأساس لممارسة هذه الحقوق وأن تتصرف بطريقة لا يظلم فيها أحد في الصراع بين حقوق الأفراد في المجتمع. بعبارة أخرى، يجب على القوة الحاكمة أن تكون حريصة في التعرف على الفروق الدقيقة لهذه الحقوق؛ وبالتالي فإن الاعتراف بهذه الحقوق وتعزيزها، فضلاً عن الدفاع عن تنفيذها وتحديدها، يعتمد أيضًا على قوة الحكومة والدولة، وهذا أحد أهم التزامات حقوق المواطنة٠
من ناحية أخرى، فإن منع المغالطات والأخطاء التي ترتكبها القوى الاستعمارية والمتغطرسة في إساءة استخدام حقوق المواطنة هو أيضًا واجب مهم للحكومة. فعلى سبيل المثال، في احتجاجات عام 2022، قامت بعض الدول الأوروبية بإهانة القرآن، وإهانة الأنبياء، وإهانة القيم الدينية المقدسة ضمن حقوق المواطنة، في حين أن هذه هي نقيض حقوق المواطنة٠
للمواطن الحق في ألا يُحجب مسار إرشاده وتعليمه، وألا يُسد مسار تقدمه العلمي والفكري والديني؛ في حين أن إهانة القيم هي مثال واضح وكامل على إحداث الانحراف وإحداث البلبلة والظلام، وبالتالي تعتبر نقيض حقوق المواطنة٠
هل يمكن استخدام نموذج الخادم والسيد لتحليل طروحات حقوق المواطنة لأسباب فقهية؟
السيد جزايري: يتساءل بعض المثقفين لماذا ينظر في الكتب الفقهية وحتى في الكتب والنصوص الدينية والقرآنية إلى العلاقة بين الإنسان والله على أنها علاقة بين العبد والسيد؟ وعلى هذا الأساس يريدون أن يقارنوا بين قضية عبودية الإنسان لله تعالى وقضية العبودية، وهذا أيضاً سلبي ومخالف للقيم في الأذهان، وبالتالي يشوهون هذه العلاقة السامية بين العبد والله سبحانه وتعالى٠
رداً على هذا الشكوك يجب أن يقال: إن التشابه اللفظي هو سبب هذا الفساد. صحيح أن البشر يتمتعون بحقوق متوازنة تجاه بعضهم البعض ولا فضل لأحد على الآخر إلا بمعايير مثل: المعرفة والجهاد وضبط النفس وما شابه ذلك؛ لكن علاقة الإنسان بالله علاقة مختلفة ومتميزة تماماً٠
إن الله هو الخالق والمخطط ورب البشر، وتدبير البشر وحقيقتهم يعتمد على الجوهر الإلهي؛ لذلك فإن البشر ليسوا أمام الله. ليس أن الله تعالى من جهة والإنسان من جهة أخرى؛ إن الإنسان في الحقيقة يعتمد على الله، وبالتالي فبقدر ما يستطيع الإنسان أن يفهم علاقته بالله ويتصرف وفقاً لهذا الفهم يكون قد أدى العبودية على نحو أفضل٠
لهذا السبب إن أعلى مراتب الأنبياء هي العبودية؛ أي أنهم أدركوا حقيقة فقرهم تجاه الله (أنتم الفقراء إلى الله)، وأدركوا أن الإنسان هو فقر محض أمام الله وأن الله هو الغنى المحض. والفهم الصحيح لهذه العلاقة بين الفقر والغنى هو العبودية٠
فإذا كانت العبودية تعني أن الإنسان عبد ومملوك لإنسان آخر، فهذا أمر مختلف؛ ولكن المقصود بالعبودية في العلاقة بين الله تعالى والبشر هو أن الإنسان في الواقع يعتمد على الله محضاً ويحتاج إليه محضاً. ونتيجة لذلك فإن العلاقة بين البشر والله تعالى تختلف في جوهرها تماماً عن العلاقة بين السيد والعبد في العلاقات الإنسانية٠
هل يمكن استنباط الطروحات الحالية لحقوق المواطنة من الفقه من خلال نهج تقسيم البشر إلى مسلمين وكفار؟
السيد جزايري: تقسيم أفراد المجتمع إلى من قبلوا القيم العلمية والواقعية وظلوا على تلك القيم، الذين نفسرهم بـ “المسلمين”، وأولئك الذين، لأي سبب من الأسباب، لا يؤمنون بهذه القيم ولا يلتزمون بها؛ إنه تقسيم حقيقي، وعقيدة، ويدل على حقيقة٠
لكن الفكر الديني يتميز بجعل الحقوق مشتركة بين المسلمين والكفار؛ بل إنه أعطى حقوقًا حتى للكفار الذين يحاربون المسلمين؛ مثل عدم تسميم المياه، وعدم قطع الأشجار، وعدم إيذاء الأطفال والنساء في الحرب. وبطبيعة الحال، هناك بعض الحقوق أيضًا للأشخاص الذين يؤمنون بتلك الحقيقة والواقع ولذلك قبلوا الإسلام٠
لذلك، بينما يقبل الإسلام تقسيم المجتمع إلى مسلمين وكفار؛ فإنه يعترف أيضًا بحقوق للكفار في مجالات مهمة؛ لذلك فإن الانقسام إلى مسلمين وكفار لا يعني تجاهل حقوق الكفار حتى لو كانوا أقلية٠
لقد أقر الإسلام حقوق الأقليات الفكرية والدينية في إطاره الخاص؛ مثل حقهم في الحياة، وبالتالي فإن حياتهم ليست بلا قيمة. وكذلك العبادة على طريقتهم، فيجوز لهم أن يؤدوا أعمال العبادة بأي طريقة تتوافق مع عقيدتهم. في الأكل واللباس وطريقة العيش ونمط حياتهم، ولهم الحق في التصرف وفقًا لأفكارهم وأذواقهم٠
من الطبيعي أن لا يصبح هذا الاستخدام عاملاً في الإضرار بهذا الطريق من الحق والهدى، فالمعيار هو احترام حقوق الأغلبية والمواطنين الآخرين. وفي عهد الرسول الأعظم وأمير المؤمنين كان من الواضح أنه حتى معارضي الرسول كان بإمكانهم العيش في المجتمع والتعبير عن آرائهم. ومن الطبيعي أن لا يسمح لهم بتدمير القيم الدينية وإهانتها٠
ما هي أهم التحديات التي تواجه تطوير البحث في فقه الحقوق المدنية؟
السيد جزايري: إن الجمع بين المبادئ الدينية والأدب المعاصر، وشرح وتحليل تلك الحقائق بالأدب الذي يقبله المجتمع المعاصر، يشكل تحدياً مهماً. وتجنب المبالغة في شرح وتعريف حقوق المواطنة يشكل تحدياً آخر٠
إن محاولة استخراج طروحات حقوق المواطنة من الآيات والروايات والمنطق العقلي وتقديم نموذج واضح وحديث، وفقاً للأفكار والمعتقدات والأديان والأذواق المختلفة، يشكل ضرورة وحاجة. ومن الطبيعي أن يتم ذلك، مع صعوباته الخاصة، كما جاء في الحديث الشريف: «لو علم الناس محاسن كلامنا لاتبعونا»، فإن الكثيرين في أقاصي الأرض سوف يهتمون به. وهذه المهمة صعبة بطبيعة الحال وتتطلب جهداً جماعياً وبحثياً٠
هذا الحوار جزء من المجلة الإلكترونية «مبادئ فقه حقوق المواطنة»، والتي تم إنتاجها بالتعاون مع موقع شبكة الاجتهاد٠