بعيد عن الأخلاق، قريب جدًا من القانون

في ملاحظة خاصة، صرح حجة الإسلام والمسلمين حسين أدبي؛

إن مستقبل البشرية مستقبلٌ سيكون فيه الأخلاق ضعيف جدًا؛ ولذلك ستتجه التناقضات والصراعات القضائية في أغلب الأحيان نحو مواجهات قانونية وحقانية؛ ولذلك يبدو أن الفقه القضائي سيُقارب القانون في هذا المجال بدلًا من مقاربة علم الأخلاق. وسيفقد الفقه القضائي جانبه الوقائي، وسينتج عنه مزيدٌ من الفساد البشري، مما سيؤدي إلى صراعات قانونية، وسيكون للفقه أيضًا دورٌ في هذا المجال، قائمًا كليًا على علم القانون٠

دراسات المستقبليات مجالٌ قائمٌ منذ عقود، ورغم أنه يُعتبر ظاهرةً حديثةً في بعض الأوساط، إلا أنه يُعتبر منذ زمنٍ بعيد علمًا مستقلًا في المجالات العلمية العالمية، وبالطبع، مساهمًا في علوم أخرى. وفي هذه المذكرة الخاصة، يحاول حجة الإسلام حسين أدبي، الأستاذ والباحث في حوزة خراسان، أن يجعل من فقه العدل دراسة مستقبلية من زوايا مختلفة٠

يشهد مجال الفقه الإضافي توسعًا في عالمنا اليوم. ويرتبط جزء كبير من هذا التوسع بالتطورات الاجتماعية في حياة الإنسان. وإن تطور العلم والتكنولوجيا والإمكانات المتاحة للبشر تُغير العلاقة بين العلوم التي تخدم البشرية، ومنها الفقه؛ لذا، هناك علاقة مباشرة بين الفقه الإضافي والتطورات المستقبلية في حياة الإنسان. وان فقه العدل مسؤول عن حل الاضطرابات التي تنشأ في تفاعل البشر مع بعضهم البعض في سياقات واقعية-واقعية، وقانونية-واقعية، وقانونية-قانونية. وبالطبع، يمكن الاستشهاد ببعض أحكام الفقه في مجال الوقاية، ولكن أهم ما يحدث في هذا المجال هو الاستجابة للاضطرابات في المجالات المذكورة وتقديم الحلول لها٠

يمكن تقسيم المناهج الموجهة نحو المستقبل إلى ثلاثة مناهج مختلفة؛ المنهج المعياري، حيث يصوغ الفقه خطته المستقبلية بناءً على معايير قيمية ضمن المعرفة، دون مراعاة الأحداث والتغيرات الاجتماعية. ولن يحقق هذا المنهج نجاحًا يُذكر، وسيواجه إشكاليات وانعزالًا فيما يتعلق بالمستقبل٠

المنهج الثاني هو المنهج الاستكشافي؛ أي أنه في تفاعل الفقه مع المستقبل، بناءً على مسار التغيرات الاجتماعية، تُؤخذ الاحتمالات والتغيرات الممكنة في الاعتبار عند تطوير العلم المذكور. يُعد هذا المنهج من المناهج التقليدية في دراسات المستقبل، إلا أن مشكلته تكمن في أنه يُحوّل الفقه إلى علم سلبي، يجب أن يتكيف مع التغيرات التي لا دور له في إحداثها. وبطبيعة الحال، في بعض الحالات، لا يُمكن هذا التكيف، وسيُضطر الفقهاء في هذا المجال إلى التخلي عن مبادئهم أو اختزالها للتكيف مع الوضع المستقبلي، وإبعادها عن دورها وتأثيرها الرئيسي٠

النهج الثالث هو أن الفقه، بوصفه فرعًا معرفيًا كليًا، والفقه فرعًا منه، بالإضافة إلى رصده للإمكانيات المتاحة في التغيرات الاجتماعية والفردية في حياة الإنسان وعلاقاته بغيره من الأفراد والجماعات، ينبغي أن يكون عنصرًا إبداعيًا وفاعلًا. على سبيل المثال، تتميز المناهج الحضارية في الفقه بهذه الخاصية. فالمنهج الحضاري في الفقه يدفع إلى النظر إليه في سياق اليوتوبيا الحضارية المرغوبة، وإنتاج المعرفة المناسبة لذلك. هذا الإنتاج المعرفي هو أساس تطور المعرفة الفقهية. علاوة على ذلك، فإن الحضور الفاعل في سياق التطورات الاجتماعية سيحقق ميزتين: أولًا، يمنع العديد من الانحرافات البشرية التي تُعيق مسار الحضارة؛ وثانيًا، يرسم خطوات إجرائية على طريق تحقيق الحضارة المنشودة. ويبدو أن هذا النهج من الحاجات الأساسية للمعرفة الفقهية المعاصرة، وخاصةً الفقه القضائي٠

أهم قضايا الفقه في المستقبل

بعد فهم العلاقات القضائية بين الأفراد، وبين الأفراد والأنظمة القانونية والقضائية معًا، والمتغيرات المؤثرة في هذه العلاقات، يُفضّل التعليق على مستقبل علم الفقه على المديين القريب والبعيد. فعلى المدى القريب، يبدو أن المحاور الرئيسية التالية يمكن اعتبارها محاور القضايا المهمة لمستقبل علم الفقه٠

تطور المعارف الأساسية، مما يُحدث تغييرات في أفعال الإنسان، ويُهيئ الأرضية لاختلالات في علاقاته. فعلى سبيل المثال، تُؤدي التغيرات في المعتقدات والقيم والأعراف الاجتماعية إلى تغيير سلوكيات البشر وفقًا لتلك المعتقدات؛ وبالتالي، فإن جميع أفكارهم العقلية الناشئة عن تغير المعتقدات والقيم في هذا السياق، تُؤدي بدورها إلى ظهور قضايا جديدة وتحديات في علم الفقه٠

تطور المعرفة التجريبية؛ تُؤدي وخاصةً المعرفة الطبية، إلى طرق جديدة لتحسين حياة الإنسان.  لذلك، ومع تطور هذا المجال، يتطور الفقه بالقدر نفسه. ويسير البشر في اتجاهٍ في حياته، حيث يزداد أمله في علاج الأمراض مع تطور المعرفة الطبية. لهذا الأمل جانبان: جانب إيجابي يتمثل في زيادة متوسط ​​العمر المتوقع وتحسين الحياة. أما جانبه السلبي فيتمثل في جواز التلاعب في حياة الإنسان بأي شكل من الأشكال، أملاً في إيجاد سبيلٍ للشفاء. ومن البديهي أن بعض التلاعبات تحمل عبئًا قضائيًا وجنائيًا، وأن تحرر هذا المجال وعدم تحديد معايير ومقاييس إمكانية العلاج في المعرفة الطبية سيؤدي إلى حدوث هذه المضاعفات٠

إن تطور المعرفة التقنية والهندسية؛ وخاصةً تطور أدوات الاتصال الجماهيري في حياة الإنسان، يزيد من التناقضات وتضارب المصالح، ويوفر فرصًا لدخول الفقه كمعيارٍ معرفيٍّ في العلاقات الإنسانية. فعلى سبيل المثال، في مجال الاتصالات الافتراضية، كمعرفة رائدة، تنقسم منصات الويب إلى ثلاثة أقسام: الويب السطحي، والويب العميق، والويب المظلم. أما ما هو متاح لعامة الناس في المجتمع العالمي فهو منصة الويب السطحي، بينما الطبقتان الأخريان متاحتان فقط للأمن والحكومة والجماعات السرية والمافيات المختلفة. تُسبب هذه المنصات العديد من النزاعات القانونية التي يجب على الفقه القانوني معالجتها. فبالإضافة إلى كون هذه المنصة متاحة للعامة، سيُطغى عليها أيضًا تدخل الذكاء الاصطناعي، مما سيؤدي إلى ظهور قضايا جديدة؛ فعلى سبيل المثال، تُعد مسألة التحقق، وتقصي الحقائق، والأصالة من بين القضايا التي سيتضرر منها إدخال الذكاء الاصطناعي؛ لذلك، ينبغي للفقه القانوني تقديم حلول وقائية وعلاجية مناسبة في هذا الصدد٠

بالإضافة إلى ذلك، سيؤدي دمج منتجات المعرفة التقنية والهندسية مع العلوم الأخرى، بما في ذلك العلوم الإنسانية والتجريبية، إلى تحول هائل في حياة الإنسان، مما سيزيد بدوره من الصراعات والتناقضات بين الأفراد. وإن زيادة المرافق والمعدات الطبية القائمة على الذكاء الاصطناعي، وإنتاج أدوات البحث القائمة على الذكاء الاصطناعي، وتطوير شبكات وأدوات الاتصالات الافتراضية، وإنتاج وتطوير أدوات الرعاية الاجتماعية القائمة على الذكاء الاصطناعي مثل السيارات ذاتية القيادة، وزيادة استخدام الذكاء الاصطناعي في المنازل والمساكن، والإدارة الشاملة القائمة على الذكاء الاصطناعي، كلها قضايا خطيرة ستمهد الطريق لقضايا جديدة في الفقه٠

إن تحول المعرفة الإنسانية وتطورها؛ هي أحد أهم فروع العلم التي تشمل أساس المعرفة الأخرى، وبالطبع، تحدد أيضًا نهجها واتجاهها، هي المعرفة الإنسانية. إذا أراد الفقه أن يبرز في أبعاد الحضارة ويستعد للعب دور في الحضارة الإسلامية الحديثة، فعليه أن يدرك جميع مؤشرات وجوده في المجالات المذكورة أعلاه، وبالطبع، أن يكون قادرًا على تخمين وتوجيه الاحتمالات المستقبلية. إن التحدي الكبير في هذا الصدد هو عدم وجود فهم مشترك للفئات الأخلاقية والقانونية في العالم.  على سبيل المثال، فإن التعريف الدقيق للدفاع المشروع والدفاع عن النفس وأمثلة ذلك، والإرهاب ومعاييره، والإبادة الجماعية، والعدالة، والقمع، وما إلى ذلك، وتأسيس هذه على حقيقة مشتركة مفهومة للبشرية جمعاء، من شأنه أن يحل العديد من التحديات التي يواجهها هذا الفرع من الفقه، ويمكنه أيضاً أن يرشده٠

من النقاط المهمة الأخرى في قضايا الفقه المستقبلية، ينبغي النظر في التفاعل والصراع بين فرعي الفقه الرئيسيين في الإسلام، وهما الفقه الشيعي والفقه السني. ونظرًا لاختلاف قدرات الاثنين على الالتقاء، سيتم النظر في مجال المنافسة وإقامة النتائج العلمية لكل منهما. ففي عالم اليوم، جزء كبير من المجتمعات الإسلامية سني؛ لذلك، في المنافسة بين إنتاج القوانين القانونية الناشئة عن الفقه في العالم الإسلامي، يجب على الفقهاء النظر في مجال التفسير وإبراز الحلول الجذابة؛ وبالتالي، فإن جزءًا من قضايا الفقه المستقبلية يتعلق بهذا المجال٠

تتعلق إحدى القضايا المهمة في مستقبل الفقه بمدى لعب الدين الإسلامي والمذهب الشيعي دورًا في الساحة العالمية. ففي ظل التغيرات الجذرية في الفكر السياسي السائد في العالم، وضعف الأسس الليبرالية والشيوعية، تُمهّد الأرض لظهور الفكر السياسي الإسلامي، وخاصةً المذهب الشيعي. وتُثير هذه القضية قضايا لم تُعالج حتى الآن. فعلى سبيل المثال، سيكون وضع قوانين للمحاكم الدولية، والاضطلاع بدور في هذا المجال، من بين قضايا علم الفقه٠

تغيرات في فرضيات وأسس الفقه

يُشكّل التفاعل مع السنة، كمذهب شيعي، جزءًا هامًا من تفاعلنا معهم. ونظرًا لخبرة السنة الواسعة في الحكم ووضع الفقه المناسب للحكومة، فقد وُضعت في هذا المجال قواعد ومبادئ فقهية ليست موجودة فحسب، بل ضرورية لا غنى عنها ليستفيد منها الشيعة في الفقه. فعلى سبيل المثال، يُعدّ المنهج الموضوعي في الفقه والاهتمام بمقاصد الشريعة مسألةً بالغة الأهمية، وإذا أُعيد تعريفها في الإطار الدقيق للفقه الشيعي، وسُوّيت جوانب قصورها في الفقه السني، وجعلت متوافقة مع مبادئ الفقه الشيعي، فإنها ستُلقي بظلالها على كثير من مبادئ الفقه القضائي مستقبلًا. وتحتاج القواعد الفقهية المناسبة للفقه القضائي إلى مراجعة وتطوير. فكثير من القواعد الفقهية العامة لا تُلبّي احتياجات الفقه القضائي، وستُصبح الحاجة إلى وضع قواعد فقهية مُحدّدة في هذا المجال، لا سيما في تفاعل المعرفة القانونية والقضاء مع العلوم الأخرى التي تُنتج مسائل جديدة، أكثر وضوحًا من ذي قبل. فتوجد تغييرات في منهج البحث وحل المشكلات في الفقه٠

من المؤكد أنه إذا أراد أي علم أن يتطور لا أن ينعزل ويندثر، فعليه مراجعة مناهج البحث الفعالة وطرق حل مشكلاته. وتماشيًا مع تقدم المجتمع البشري، ينبغي تطوير مناهج مثلى بسرعة أكبر، بالاستفادة من أدوات وقواعد بيانات جديدة، بهدف تحقيق أقصى قدر من الكفاءة. وينشأ بعض هذه المناهج من خلال التفاعل بين علم الفقه والعلوم الأخرى٠

مستقبل التواصل بين الفقهاء والمحامين

مستقبل البشرية هو مستقبل ستكون فيه الأخلاق ضعيفة للغاية؛ ولذلك، ستتجه التناقضات والصراعات القضائية في معظم الحالات نحو مواجهات قانونية وحقانية؛ ولذلك، يبدو أن الفقه في هذا المجال سيكون أقرب إلى القانون منه إلى علم الأخلاق. وسوف يفقد الفقه جانبه الوقائي، وسيظهر المزيد من الفساد الإنساني، مما يؤدي إلى النزاعات القانونية، وسيكون للفقه دور في هذا المجال يعتمد كلياً على علم القانون٠