إشارة: كلما تقدمت الحضارة البشرية وتطورت التقنيات، زاد تدمير الموارد الطبيعية، وبالتالي ازدادت أهميتها. لقد أصبح خطاب ضرورة الحفاظ على الموارد الطبيعية محل إجماع شبه عالمي بين البشر، رغم أن الكثيرين لا يولونه اهتمامًا عمليًا. حجة الإسلام والمسلمين الدكتور محسن الويري، الحاصل على درجة الدكتوراه في تاريخ وحضارات الأمم الإسلامية من جامعة طهران، يتناول في حوار خاص مع “الفقه المعاصر” سيرة المعصومين (ع) في الحفاظ على البيئة. وهو يستعرض المبادئ التي لا يمكن فهم سيرة أهل البيت (ع) بشأن الموارد الطبيعية دون إدراكها والانتباه إليها.
الفقه المعاصر: هل هناك في سيرة المعصومين (ع) ما يدل على ضرورة الحفاظ على الموارد الطبيعية؟
الويري: عندما نؤكد على السيرة العملية، إذا كان هذا التأكيد يعني حرمان أنفسنا من التوصيات والأحاديث والروايات المنقولة عن الأئمة (ع)، فإن هذا النهج لا يبدو قابلًا للدفاع. بل ينبغي أن ننظر بعين أوسع، بحيث نتمكن عند الحديث عن السيرة من الإستناد إلى الأقوال أيضًا والإشارة إليها واستخدامها كشواهد على السيرة. مع هذا التوضيح، فإن توصيات الأئمة (ع)، أي الروايات، تنقسم إلى قسمين: بعضها عبارات إخبارية، وبعضها عبارات إنشائية. العبارات الإخبارية هي تلك التي عبر فيها الأئمة (ع) عن أهمية شيء ما، مثل الزراعة. أما العبارات الإنشائية فهي التي تحمل توصيات للشيعة أو المسلمين والمؤمنين بفعل أشياء معينة أو الامتناع عن أشياء أخرى.
لذا، يمكن فهم السيرة من جميع العبارات المنقولة عن الأئمة (ع)، سواء كانت إخبارية أو إنشائية، مع التوضيح بأن ما يعبرون عنه كانوا هم أنفسهم يعملون به. بالطبع، هناك بعض الحالات التي نعلم أن الأئمة (ع) لم يعملوا بها، مثل عندما تحدثوا عن عقوبة عمل مخالف، فلا يمكننا القول إنهم طبقوها. في هذه الحالات، يمكن فهم ذلك من خلال قرينة. على سبيل المثال، في توصياتهم بالزراعة، ذكروا أمورًا معينة، لكن لا ينبغي الذهاب إلى التحقق من السند، بل يجب التركيز على السيرة العملية بالمعنى الذي نملكه من سلوك الأئمة (ع)، والذي يمكن فهمه حتى لو لم تكن هناك روايات.
بهذه المقدمة، فإن الجواب إيجابي. في السيرة العملية للأئمة (ع)، هناك حالات بارزة تتعلق بضرورة الحفاظ على الموارد الطبيعية. هناك فئة من الروايات الإخبارية، مثل تلك التي تتعلق بالاستمتاع بالطبيعة، حيث إن النظر إلى الطبيعة يزيل الحزن. فقد قال الإمام علي (ع) في الحكمة ٤٠٠ من نهج البلاغة: «النَّظَرُ إلى الخُضرَةِ نُشرَةٌ» (حكمة ٤٠٠): النظر إلى المساحات الخضراء يزيل الغم من قلب الإنسان. وتدل هذه العبارة على أن الإمام (ع) كان يستمتع بالطبيعة، ولا يوجد دليل يستثني الإمام (ع) من الاستمتاع بالطبيعة.
كما ورد عن الإمام الصادق (ع) قوله: «لا تَطيبُ السُكنى إلا بثلاثٍ: الهواءِ الطيِّبِ والماءِ الغزيرِ العذبِ والأرضِ الخوّارةِ» (تحف العقول، ص٣٢٠): السكنى لا تطيب إلا بثلاث: الهواء النقي، والماء العذب الوفير، والأرض الخصبة للزراعة.
بعض هذه الروايات تعبر عن الاستمتاع بالطبيعة والبيئة، وفئة أخرى من الروايات تحث على الزراعة والبستنة كفعل مستحب. وهناك روايات عديدة في هذا السياق. فقد ورد عن الإمام علي (ع):
«عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع: أَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ بِيَدِهِ وَيُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَأْخُذُ فَيْئَهُ وَلَقَدْ كَانَ يُرَى وَمَعَهُ الْقِطَارُ مِنَ الْإِبِلِ وَعَلَيْهِ النَّوَى فَيُقَالُ [لَهُ]: مَا هَذَا يَا أَبَا الْحَسَنِ؟ فَيَقُولُ: نَخْلٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَيَغْرِسُهُ فَمَا يُغَادِرُ مِنْهُ وَاحِدَةً» (مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج١٣، ص٤٥٩).
تدل هذه الروايات على أن الإمام (ع) كان يحمل نوى النخيل ويبدأ بزراعتها.
كما ورد حديث آخر عن النبي الأكرم (ص):
«ما من مسلم يزرع زرعًا أو يغرس غرسًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة»: لا يزرع مسلم زرعًا أو يغرس غرسًا فيأكل منه طير أو إنسان أو حيوان إلا كان ذلك صدقة له.
تعبر هذه العبارة عن استمرارية الصدقة التي يصنعها الإنسان لنفسه. وفي كلا الفئتين من الروايات، يظهر الاهتمام بالحفاظ على البيئة. وفي الأبواب الأربعة الأولى من كتاب مستدرك الوسائل، توجد روايات بهذا المعنى: أبواب كتاب المزارعة والمساقاة، باب استحباب الغرس وشراء العقار وكراهة بيعه، باب استحباب الزرع، باب استحباب الحرث للزرع، باب ما يستحب أن يقال عند الحرث والزرع والغرس.
تؤكد هذه الروايات مجتمعة على أهمية الحفاظ على البيئة.
الفقه المعاصر: هل يمكن اعتبار عدم اهتمام المعصومين (ع) الجدي بمسألة الحفاظ على الموارد الطبيعية ناتجًا عن عدم وجود أزمة في الموارد الطبيعية في زمانهم؟
الويري: إذا كانت مسألة ما تُطرح كأزمة في ظروف معينة مثل زمن المعصومين (ع)، فإن التعامل معها سيكون متناسبًا مع تلك الأزمة. لكن إذا كانت المسألة موجودة ولكن ليست على مستوى الأزمة، فمن الطبيعي أن يكون الاهتمام بها متناسبًا مع غياب الأزمة. ورغم أن قضية البيئة والموارد الطبيعية لم تكن تُطرح كأزمة في زمن أهل البيت (ع)، إلا أن أصلها كان محل اهتمام. ونظرًا لأن مكانة الموارد الطبيعية في الحياة البشرية، وفي تحقيق العيش الأمثل للبشر، وفي تقدم المجتمع والتنمية والحضارة، تشكل ركنًا أساسيًا، فليس من الضروري أن تكون هناك أزمة حتى يهتم الأئمة (ع) بها. بل كان اهتمامهم بهذا الموضوع جديًا للغاية، حتى لو لم ينظروا إليه كأزمة.
وفي هذا السياق، هناك عدة نقاط تستحق الذكر:
قبل طرح هذه النقاط، يجب أن نعلم أن فهم سيرة الأئمة (ع) لا يمكن إلا من خلال فهم المبادئ الدينية. يجب أن نستخلص مبادئ مسلمة من القرآن والروايات لتُظهر لنا النهج الأساسي تجاه الموارد الطبيعية، وأن نحكم بناءً على هذه المبادئ بأن الأئمة (ع) تحركوا ضمن هذا الإطار، وليس أن نرسم الإطار أولاً ثم نفسر مسار الأئمة (ع) بناءً عليه. وبهذا الاعتبار، أقدم النقاط التالية:
النقطة الأولى: الطابع الرمزي والآياتي للطبيعة. في الثقافة الإسلامية، عالم الطبيعة والموارد الطبيعية آيات إلهية تحمل طابعًا رمزيًا؛ فليست الطبيعة بحد ذاتها هي الهدف، بل هي حاملة لرسالة يجب فهمها وتفكيكها من خلالها للوصول إلى المعنى الأساسي، كما هو الحال مع إشارات الطرق التي لا قيمة لها بذاتها، بل تكمن أهميتها في الرسالة التي تنقلها.
وهناك آيات عديدة في هذا السياق، مثل الآية ١٦٤ من سورة البقرة:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}: إن خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار وغيرها هي آيات طبيعية لقوم يعقلون.
النقطة الثانية: أهمية ومكانة الأرض. في الثقافة الإسلامية، تتمتع الأرض بمكانة خاصة يمكن فهمها من منظور الموارد الطبيعية في ضوء نظرتنا إلى الأرض. فقد وردت كلمة “الأرض” ٤٦١ مرة في القرآن، مثل الآية ٦١ من سورة هود:
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}.
يقول معظم المفسرين إن الله يطالب الإنسان بإعمار الأرض. فإعمار الأرض مطلب إلهي. وقد قال النبي (ص): احفظوا الأرض فإنها أمكم، ولا يعمل أحد فيها خيرًا أو شرًا إلا وهي مخبرة به (بحار الأنوار، ج٧، ص٩٧). وكذلك قول الإمام علي (ع) لمالك الأشتر: «وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلَابِ الْخَرَاجِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَارَةِ»: اجعل اهتمامك بإعمار الأرض أكثر من اهتمامك بجمع الخراج، لأن ذلك لا يتحقق إلا بالإعمار.
النقطة الثالثة: الأحكام الشرعية المتعلقة بالموارد الطبيعية تُظهر أهميتها. فآداب الصلاة مثل الطهارة والسجود على المهر ترتبط بالموارد الطبيعية. وفي أحكام الحج، يُعد اقتلاع العشب من الأرض من المحرمات في الإحرام.
هذه النقاط ضرورية لفهم نهج أهل البيت (ع) تجاه الموارد الطبيعية.
الفقه المعاصر: بالنظر إلى الظروف الجغرافية الخاصة التي عاشها المعصومون (ع)، مثل الجفاف وقلة السكان وعدم استخدام الوقود الأحفوري، هل يمكن اعتبار سيرتهم الإيجابية والصامتة نموذجًا للإنسان المعاصر الذي يعيش في جغرافيا مختلفة تمامًا؟
الويري: إذا اعتبرنا سيرة الأئمة (ع) الإيجابية والصامتة في ظروف جغرافية خاصة كانت في زمنهم أساسًا للإنسان المعاصر الذي تختلف حياته تمامًا، فإن الجواب إيجابي. لكن مع هذا التوضيح: إن تعامل الأئمة (ع) مع الموارد الطبيعية يستند إلى مبادئ ليست مقيدة بزمان أو مكان معين، بل هي أمور إنسانية، وبما أنها إنسانية، فهي تتجاوز زمانًا ومكانًا معينين ويمكن أن تؤخذ بعين الاعتبار لكل العصور والبشر.
النقطة الأخرى هي أن الأمر لا يقتصر على السيرة الإيجابية والصامتة فقط، بل إن الأئمة (ع) تجاوزوا التوقيع والتصديق، وقد قاموا بأفعال واضحة في هذا الشأن، وبالإضافة إلى الأفعال، تحدثوا بصراحة أيضًا. فالسيرة المثلى التي كانوا يريدونها تنعكس في توصياتهم، ولذا فقد أوصوا مرات عديدة بالحفاظ على الموارد الطبيعية.
النقطة الأخرى هي أننا عندما ننظر إلى الإنسان المعاصر، نجد أنه يواجه مشكلة وأزمة، ونبحث عن علاجها. لذا، نلجأ إلى سيرة الأئمة (ع) لنستلهم من حياتهم نموذجًا. لكن النقطة المهمة في سيرتهم هي أن تعاملهم لم يكن رد فعل أو علاجًا لأزمة تحدث ثم يعالجونها، بل كانت سيرتهم وقائية ومانعة بشكل فعال وغير منفعل، غير مقتصرة على السيرة الصامتة أو الإيجابية، بل تتجاوز التوقيع والتصديق إلى أفعال وأقوال واضحة.
الفقه المعاصر: كيف تقيمون سيرة المعصومين (ع) تجاه السلطة مقارنة بشخصيات علمية معاصرة لهم فيما يتعلق بالحفاظ على الموارد الطبيعية؟
الويري: في هذا الصدد، لا أملك نقطة محددة، وهذا يتطلب دراسة وبحثًا أكثر. هناك عبارة لأمير المؤمنين (ع) يقول فيها: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عباده. وبما أن الموارد الطبيعية هي نعمة إلهية، فإن هذه العبارة تدل على ضرورة الحفاظ على هذه الموارد والاستفادة منها بأفضل طريقة. وبهذا المنظور، يبدو أن هناك حاجة لإعادة قراءة الروايات من جديد.