حجة الإسلام والمسلمين الدكتور جلال العراقي، في حوار خاص مع «الفقه المعاصر»:

فقه العلاقات الدولية: ماهيته، أبعاده وتحدياته/13

لا يمكن تنظيم فقه علاقات دولية فعّال مع القول بنجاسة الكفّار وجواز الغيبة والتهمة والإيذاء له أو عدم احترام أمواله. لكن يبدو أنه لا يوجد في الفقه الإسلامي حكم يمنع تحقّق علاقات دولية مناسبة مع الآخرين، والأفضل إعادة النظر والبحث مجدداً في الافتراضات الفقهية القديمة وفق مقتضيات العصر.

إشارة: ربما يمكن القول إن كثيراً من الخلافات والنزاعات الموجودة في الأحكام الفقهية تعود إلى المباني والافتراضات المسبقة لذلك الباب الفقهي. وهذا بالضبط ما يبرز أهمية المباني والافتراضات المسبقة لفقه العلاقات الدولية. في هذا الصدد أجرينا حواراً مع حجة الإسلام والمسلمين الدكتور جلال العراقي، رئيس قسم الفقه والأصول في معهد بحوث عروة الوثقى. هو بعد تعداد المباني والافتراضات المسبقة لهذا الباب الفقهي، ذكّر بأنه بدون إعادة النظر في بعض الأحكام الفقهية القديمة حول الكفّار وما شابه، لا يمكن التفاؤل بإنشاء فقه علاقات دولية فعّال. تفاصيل الحوار الخاص لـ«الفقه المعاصر» مع حجة الإسلام والمسلمين الدكتور جلال العراقي كالتالي:

الفقه المعاصر: ما هو فقه العلاقات الدولية، وما هي مستلزماته؟

العراقي: فقه العلاقات الدولية مصطلح مركب من كلمتي «فقه» و«علاقات دولية» أنتج علماً مرتبطاً بعلمي الفقه والعلاقات الدولية. وبعبارة أخرى، فقه العلاقات الدولية علم فقهي يعتمد على مباني الفقه ويستلهم منهج الاجتهاد، فيبيّن الأحكام الشرعية المتعلقة بالعلاقات الدولية، ويضع ويقدم القوانين والالتزامات الحاكمة على علاقات النظام الإسلامي الدولية.

ومن مستلزمات فقه العلاقات الدولية يمكن تعداد ما يلي:

  • الإنسان كائن اجتماعي بالطبع ويحتاج فطرياً أن يعيش في مجتمع إلى جانب أبناء جنسه، ومقتضى الحياة الاجتماعية هو الروابط والارتباطات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية…
  • الإسلام يدّعي العالمية ويرى برنامجه سعادةً لجميع الأمم والجماع والأعراق…
  • الإسلام دين الرحمة والسلم والصلح.
  • للإسلام مبادئ راسخة وقيم ثابتة يجب على أتباعه الحفاظ عليها والالتزام بها، ويعتبر كل علاقة دولية مشروعة على أساس تلك المبادئ والقيم؛ مثل مبدأ سيادة الله ونفي سيادة الطاغوت، مبدأ عالمية رسالة الإسلام، مبدأ خلود أحكام الإسلام، مبدأ تهيئة الأرضية للهداية، مبدأ العدالة، مبدأ المصلحة، مبدأ صيانة أساس الإسلام، مبدأ حفظ عزة المسلمين، مبدأ نشر مكارم الأخلاق.

الفقه المعاصر: ما هي القواعد الفقهية الحاكمة على فقه العلاقات الدولية؟

العراقي: بعض القواعد الفقهية تحكم العلاقات الدولية؛ مثل: قاعدة نفي السبيل (نفي السيطرة والخضوع لها)، قاعدة حرمة الإعانة على الإثم والعدوان، قاعدة الوفاء بالعهد، قاعدة التقية، قاعدة التولي والتبري…

وفي حال تعارض القواعد توجد معايير لتقديم قاعدة على أخرى مثل ضرورة حفظ النظام، نفي العسر والحرج…

الفقه المعاصر: بشكل عام، ما هي المباني والافتراضات المسبقة لفقه العلاقات الدولية؟

العراقي: المباني والافتراضات المسبقة لفقه العلاقات الدولية هي:

في البعد المعرفي:

  • قياس صدق أو كذب القضايا المعرفية يكون بالمطابقة أو عدم المطابقة مع الواقع؛
  • إمكانية الحصول على معرفة صحيحة وموثوقة؛
  • شمول الفقه من حيث الأحكام يشمل الشخصيات الحقيقية والحقوقية، وكذلك الأحكام الفردية والاجتماعية؛
  • قدرة الفقه على تقديم نظام شامل ومنسجم.

في البعد الوجودي:

  • قبول مبدأ وجود الواقع؛
  • الاعتقاد بالتوحيد كبداية العبودية لله؛
  • الغلبة النهائية للمؤمنين.

في البعد الإنساني:

  • كون جميع المخلوقات عين الربط وتوقفها على الخالق في كل لحظة؛
  • اختيار الإنسان في سلوك طريق الهداية أو الضلال؛
  • القرب الإلهي كغاية خلق الإنسان؛
  • تمتع البشر بنقاط مشتركة مع وجود التنوع البشري.

في مجال السيادة:

  • مشروعية اكتساب السلطة في العلاقات الدولية، لكن ليس لطلب الدنيا وتحقيق أهداف طاغوتية واستكبارية، بل الهدف الأساسي هو الدفاع عن الحق ومحاربة أعداء الله؛
  • نفي السيادة غير المشروعة (نظام الهيمنة) في العلاقات الدولية.

في مجال الحكومة: الإسلام قبل علاقة النظام الإسلامي في الساحة الدولية على أساس منطق الفطرة والمشتركات العقدية وأكد عليها. الله تعالى أجاز للمسلمين إقامة علاقات ودية وعادلة مع غير المسلمين الذين لا يقصدون العداء للمسلمين. هذه العلاقات ليست موحدة: مع الحكومات غير الإسلامية غير المتخاصمة تكون على أساس الاحترام المتبادل وعدم الظلم وفق المبادئ المشتركة، ومع الحكومات غير الإسلامية المتخاصمة تكون على أساس مبدأ البراءة.

في مجال الحكم:

  • الحكم على أساس الفطرة البشرية التي تدفع الإنسان إلى الحياة الاجتماعية، والإسلام دين مطابق للفطرة ومنسجم مع طبيعة الإنسان؛
  • الحكم على أساس العدالة؛ لا يحق للمسلمين حتى تجاه أعدائهم اللجوء إلى الظلم وعدم العدالة؛
  • الحكم بهدف إقامة السلام والأمن في العالم؛
  • الحكم على أساس المشتركات الإنسانية: اللغوية، القومية، العقدية…

الفقه المعاصر: للوصول إلى فقه علاقات دولية فعّال، هل هناك حاجة إلى تغيير في المباني والافتراضات الفقهية؟

العراقي: نعم، إعادة النظر في الافتراضات الفقهية وصياغة النظرية ووضع نموذج منهجي للعلاقات الدولية الإسلامية أمر ضروري. اليوم بسبب ختمية الإسلام وشموليته، وبسبب اتساع حاجات العصر الجديد، توسعت فرصة دخول الباحثين الإسلاميين في تنظيم الأحكام والتعاليم الإسلامية في مجال العلاقات الدولية وفق معايير هذا المجال، ليبنى نظام مبني على التعاليم الوحيانية، بل ومختلف عن الأنظمة الأخرى الموجودة في الساحة الدولية. فقه العلاقات الدولية علم حكم وعلم نظرية فقهية معاً. أعتقد أن نظام العلاقات الدولية في الإسلام مجموعة من الأحكام الإمضائية والتأسيسية وفق مقتضيات كل عصر.

الفقه المعاصر: هل مع الأحكام الفقهية حول الكافر مثل النجاسة، والفرق في الدية، والشهادة، وجواز الغيبة والتهمة والإيذاء له، يمكن تنظيم فقه علاقات دولية فعّال؟

العراقي: لا، لا يمكن تنظيم فقه علاقات دولية فعّال مع القول بنجاسة الكفّار وجواز الغيبة والتهمة والإيذاء له أو عدم احترام أمواله. لكن يبدو أنه لا يوجد في الفقه الإسلامي حكم يمنع تحقّق علاقات دولية مناسبة مع الآخرين، والأفضل إعادة النظر والبحث مجدداً في الافتراضات الفقهية القديمة وفق مقتضيات العصر. على سبيل المثال، في مسألة نجاسة الكافر نقول: الإنسان بما هو إنسان طاهر ونظيف وليس له نجاسة ذاتية. نعم، إذا كانت له نجاسة عارضة فيجب الابتعاد عنها، وبالتالي فإن قوله تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ المقصود بالنجس هو النجاسة الفكرية والعقدية وربما السلوكية، لا النجاسة التي إذا لمسها اليد المبلولة تنجس.

الفقه المعاصر: هل مع النهج الاستعلائي للمسلم تجاه الكافر وللشيعي تجاه أهل السنة الموجود في الفقه، يمكن تنظيم فقه علاقات دولية فعّال مبني على تساوي طرفي العلاقة؟

العراقي: لا، مع النهج الاستعلائي لا يمكن تنظيم علاقات دولية فعّالة. صحيح أن «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ» ولا يوجد حكم أو قانون يتفوق على قانون الإسلام وأن الإسلام أعلى من الأديان السابقة؛ لكن هل هذا يعني أن المسلم أيضاً أعلى؟ هذه من الافتراضات التي تحتاج إلى بحث جديد.

الفقه المعاصر: هل الحكم الفقهي بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتوافق مع مبدأ عدم جواز التدخل في شؤون الدول الأخرى؟

العراقي: نعم، قابل للتوفيق ولا تعارض بينهما. بالطبع «كُلُّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ»؛ أي يعتمد على المعروف والمنكر. مثلاً في الوثائق الدولية التي قبلها النظام الإسلامي وانضم إليها، يمكن الأمر بها والنهي عن مخالفاتها.

Source: External Source