إشارة: النزاع بين أنصار المنهج الأدنوي والأقصوي تجاه علم الفقه نزاع قديم، وقد ازداد حدة بعد الثورة الإسلامية وتسلط الفقه على البلاد. غير أن آية الله السيد مهدي عليزاده الموسوي يرى أن هذا الخلاف ناشئ عن عدم وضوح محل النزاع، وإلا فلو اتضح محل النقاش وبُيِّن بدقة لاتضحت المسألة. وهو يعتقد أن خلطاً كبيراً هو الذي ألزم كثيرين بتبني المنهج الأدنوي تجاه علم الفقه. وفيما يلي نص الملاحظة الشفوية الخاصة لعضو الهيئة العلمية في جامعة الأديان والمذاهب:
لفهم النظرة الأدنوية والأقصوية إلى الفقه، ينبغي أن نبيّن الموضوع في عدة أقسام. وببيان هذه الأقسام يمكن القول إن الهيكل العام للنقاش يصبح واضحاً.
القسم الأول: علاقة الفقه بالكلام والأخلاق
في هذا القسم يجب أن نتحدث عن السؤال القديم حول علاقة الفقه بالكلام والأخلاق: أيهما أولى بالأولوية؟ الكلام أم الأخلاق أم الفقه؟ للأسفف، شهد التاريخ تطرفاً وتفريطاً في هذه المجالات الثلاثة. فمثلاً في النزاع بين المعتزلة وأهل الحديث كان التركيز على المباحث الكلامية مثل حدوث القرآن وقدمه. وأحياناً كان التركيز على المباحث الفقهية كالنزاع بين الأخباريين والأصوليين في علم الفقه. وأحياناً أخرى وقع التطرف في مجال الأخلاق فظهرت الصوفية والعرفانات الزائفة. برأيي، إن العلاقة بين هذه العلوم الثلاثة تشبه تنفيذ شجرة: المباحث العقادية والكلامية هي بمنزلة جذور الشجرة، والمباحث الفقهية هي جذعها وأغصانها وأوراقها، والمباحث الأخلاقية هي ثمار هذه الشجرة. إذا غاب أحدها أصبح الآخران بلا معنى وناقصين. لكن للأسف وقع في التاريخ تطرف وتفريط في هذا المجال. أول مشكلة ظهرت في تاريخ الإسلام كانت عدم التناسق بين هذه العلوم الثلاثة.
القسم الثاني: الأدنوي والأقصوي في تعريف الفقه
في هذا القسم يجب أن نحدد تعريفنا لعلم الفقه. إذا اعتبرنا الفقه علماً يبحث في أفعال المكلَّفين ويدرسها من حيث الأحكام الخمسة (الوجوب، الاستحباب، الإباحة، الكراهة، الحرمة)، فإن النظرة الأدنوية والأقصوية تعني هنا مدى شمول الأحكام لأفعال المكلفين. فإذا قصرناه على المسائل الخاصة بالناس فقط صرنا قائلين بالفقه الأدنى، أما إذا اعتبرناه مؤثراً في المسائل العامة أيضاً فقد التزمنا بنظرية الفقه الأقصوي. ومن هذا المنظور يبدو أن نظرية الفقه الأقصوي هي النظرية الأصح، فالفقه لا يقتصر على المسائل الفردية بل يدخل في المباحث الاجتماعية ويهتم بجوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتنوعة.
القسم الثالث: الفقه الأدنوي والفقه الأقصوي بالنسبة إلى المقلِّدين
في هذا القسم ندرس المنهج الأدنوي والأقصوي تجاه الفقه من زاوية المقلدين. نتكلم هنا عن موقف المجتهدين تجاه المقلدين: هل يجوز لهم في بعض الحالات أن يعتبروا أسئلة المقلدين غير مشروعة ويمنعوهم منها؟ هل يجوز أن يصدر المجتهدون فتاوى تؤدي إلى وسواس فقهي عند المقلِّد؟ هل فتاوى المجتهدين عملية بما يكفي للمقلدين وتراعي أبعاد حياتهم الواقعية؟ ومع تخصص العلوم يوماً بعد يوم، هل يمكن الحديث عن مجتهد مطلق أم أن جميع المجتهدين متجزئون؟ يبدو لي أنه مع الوضع الحالي وتخصص العلوم بشكل متزايد، لم يعد هناك مجتهد مطلق بل الكل متجزئ. وكثير من الذين يطرحون المنهج الأدنوي للفقه يخلطون في الحقيقة بين ضرورة تخصص الاجتهاد وبين قبول المنهج الأدنوي للفقه، بينما الأول لا يستلزم الثاني. لا منافاة بين أن يكون علم الفقه قادراً على الإجابة عن جميع أسئلة الإنسان المعاصر، وبين أن يحتاج كل باب من أبواب الفقه المضاف إلى مجتهدين متخصصين في ذلك الباب بالذات. هذا الخلط هو خلط كبير وقع للأسف. يبدو أن كون الفقه أقصوياً وله رأي في جميع الموضوعات أمر واضح وبديهي، حتى إنه لا يمكن العيش أصلاً بدون فقه، ولهذا السبب فإن جميع الأديان تمتلك فقهًا.
ربما يكون السبب الآخر الذي دفع بعضهم إلى المنهج الأدنوي في الفقه هو عدم استفادة الفقهاء استفادة جدية من مصدري العقل والعرف، وهذا بالذات هو ما جعل بعضهم يرى الحل في قبول المنهج الأدنوي تجاه الفقه حتى يتسنى تقليص مجال تدخل الفقه فيفتح الباب أمام الرجوع إلى العقل والعرف، بينما الحقيقة أنه يجب الاستفادة من العقل والعرف داخل هذا العلم الفقهي نفسه.
خلاصة القول في مجال تعريف علم الفقه ومدى تأثيره نتبنى النظرة الأقصوية، أما في مجال المقلدين والمكلفين فنعتقد أن على الفقه أن يتجه نحو الأدنى بمعنى التخصص، بحيث يكون لكل باب فقهي مجتهدوه المتخصصون به.
