لكي نفهم بعض الموضوعات المأخوذة من لغة الأدلة، لا بد من الدراسات المعجمية، بل وحتى الدراسات الأثرية؛ أي أن الفقيه يجب أن يوسع دائرة دراساته حتى يفهم مثلًا أن كلمة أو مصطلحًا مثل كلمة “تغنّي” وردت في الروايات المنكرة، فماذا تشير بالضبط، وما الحالات التي تضمنتها، وما هي خصائصها؟
رغم أن تحليل الموضوعات كان ذا أهمية في علم الفقه منذ زمن بعيد، إلا أنه مع توسع الموضوعات في العقود الأخيرة وظهور موضوعات مذهلة في العصر المعاصر، اكتسب أهمية مضاعفة. ويمكن القول إن تحليل الموضوعات صعب من ناحيتين؛ وإن من أهم الأمور التي يجب أن يعرفها الفقهاء في العصر الحديث هو أن المسائل التي حكم بها الشارع وقت إصدار النص لابد أن تكون معلومة، ومن الأمور التي يجب أن تدرس في العصر الحديث هي المسائل التي يجب أن تدرس، وقد جلسنا مع حجة الإسلام والمسلمين صادق علم الهدى لنناقش طبيعة وأهمية ومكانة الموضوع في الفقه المعاصر، فقد أكد في تعاليمه وأبحاثه على ضرورة الموضوع الدقيق والخبير، وحاول دائماً مساعدة المراكز الفقهية المختلفة في هذا الأمر، وفيما يلي تفاصيل الحديث الحصري حول الفقه المعاصر مع هذا الأستاذ الشاب الذي يدرس بحث خارج الفقه والأصول في الحوزة العلمية بقم٠
الفقه المعاصر: ما هي أهمية هذا الموضوع؟
السيد علم الهدى: لا شك أن الموضوع يدخل في الحكم ويعتبر أساساً سبباً للحكم، أي أن دور الموضوع بالنسبة للحكم هو دور السبب بالنسبة للسبب. لذلك فإن فهم الحكم لا يمكن أن يتم بدون فهم الموضوع، ولا يمكن للفقيه أن يفتي بدون معرفة الموضوع بشكل تفصيلي٠
مثال ذلك: الإثراء أو الثروة، إذا كان الموضوع محرماً، فلا بد أن يعرف الفقيه بالضبط ما معنى هذا الإثراء وما الأمثلة التي يشير إليها، وإلا لما فهم الحكم. ولهذا السبب فإن الشكوك المفاهيمية التي تكون بسبب جهل الفقيه بالموضوعات تعتبر من الشكوك الفقهية. لذلك فإن موضوع الحكم له أهمية كبيرة وربما تكون بنفس أهمية فهم الحكم٠
الفقه المعاصر: بما أن الفقهاء ليسوا خبراء في جميع الموضوعات، فكيف يمكنهم التأكد من صحة تحديد الموضوع؟
السيد علم الهدى: هنا أود أن أشير أولاً إلى أن تحديد الموضوع يختلف عن تحديد حالة الموضوع، فلا بد من الفصل بينهما، فالفقيه هو الذي يحدد بالضبط ما هو موضوع الحكم؛ أي أن الفقيه لكي يصل إلى حكم ما لا بد أن يرسم الموضوع في ذهنه أولاً ثم يبحث عن حكمه، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها، ولكن هل تحققت حالة هذا الموضوع خارجياً أم لا قد يكون ذلك خارجاً عن قدرة الفقيه. وما يعهد به إلى المكلفين ولا يعتبر من واجب الفقيه هو تحديد حالات الموضوع وليس تحديد الموضوع نفسه. وقد يكون الفقيه أحياناً على علم بالموضوع جيداً ويستطيع أن يشرحه جيداً ولكنه لا يستطيع تحديد الحالة بنفسه ولا بد من الرجوع إلى خبير؛ مثل تذكية الحيوانات الحلال التي تخضع للفصل الرباعي. والآن يجب أن نسأل الخبير هل قطعت الاوداج الأربعة في الحيوان، لأن الفقيه قد لا يستطيع تحديد هل قطعت الاوداج الأربعة في هذا الحيوان٠
لكن لابد أن يعرف ما هو موضوع التذكية بالضبط وما معنى الخلو من المفاصل الأربعة؟ لابد أن يفهم هذا، وإن كان قد يجد صعوبة في تطبيقه؛ لذلك لابد من التمييز منذ البداية بين تحديد موضوع الحكم وتحديد موضوع القضية.
أما الموضوعات فلدينا نوعان منها، بعض الموضوعات ليست جديدة، بل هي مواضيع قديمة. وفي هذه الحالات، وبما أن تحديد الموضوع متروك للعرف والمعيار هو نفس الموضوعات التي كانت مركزية في أذهان العرف وقت صدور النص، فإن تحديد الموضوع ليس بالأمر السهل في بعض الأحيان، وأحياناً غير ممكن على الإطلاق. وهذا واقع لابد أن نعترف به؛ لأننا لا نملك الوصول إلى مراكز أهل وقت صدور النص، أو أن الطريق ممهد بصعوبة٠
عليه، فأنا أعتقد أنه لفهم بعض الموضوعات التي تتناولها لغة الأدلة، بالإضافة إلى الدراسات المعجمية، هناك أيضاً أبحاث تاريخية وحتى أثرية؛ أي أن الفقيه يجب أن يوسع دائرة دراسته حتى يستطيع أن يفهم مثلاً أن كلمة أو مصطلحاً مثل كلمة “تغني” وردت في الروايات المنكرة، فما المقصود بها بالضبط، وما الحالات التي تضمنتها، وما هي خصائصها؟
كما يجب على الفقيه أن يراقب التطورات الزمانية والمكانية وأن يكيفها مع زمان ومكان عصره وفترة حكمه؛ لأن الموضوع قد يكون تغير وتحول خلال التطورات الزمانية والمكانية، وبمراقبة هذه التطورات يستطيع الفقيه أن يفسر الموضوع على أساس دراسات مستفيضة ومناقشة مفصلة وتكييف للخصائص التي يمكن تطبيقها في العصر الحاضر٠
هذه عملية منطقية لفهم الموضوعات التي يتناولها الحكم؛ لذلك يجب عليه أولاً أن يفهم الموضوع الذي يتناوله في الحجة فهماً كاملاً مع شروطه وحدوده من خلال دراسة شاملة لمفردات وتاريخ وجغرافية تلك الفترة الزمنية، ثم مع مراعاة التطورات الزمانية والمكانية، يلاحظ الموضوع في علاقته بزمانه ومكانه، وأخيراً يشرحه بخصائص يمكن فهمها وتطبيقها في عصرنا الحالي٠
أما في الموضوعات الجديدة، فيحتاج الفقيه إلى الرجوع إلى خبير. مثلاً: العملات المشفرة أو الرقمية وغيرها من الأمور، يجب على الفقيه أن يفهمها ويتعرف على ماهيتها وعلى أي أساس اكتسبت قيمة حتى يتمكن من الحكم عليها، وإلا إذا لم يكن لديه معرفة دقيقة، لا يمكنه الحكم في هذه المسائل٠
طبعاً، الرجوع إلى الخبير لا يكون مفيداً إلا إذا كان متأكداً من أقواله؛ لأن أقوال الخبير ليست حجة دينية إلا إذا اعتقدنا أن شهادة خبيرين عادلين تعتبر حجة دينية، وهذا أمر يجب النظر فيه٠
الفقه المعاصر: يعتقد علماء العلوم المختلفة أنه لا يمكن لأحد أن يحل مشاكل تلك العلوم إلا إذا درسها ولم يقم بدراسات جادة. فهل يستطيع الفقيه أن يعبر عن صورة دقيقة لتلك المسألة بمجرد إلمامه بالمسألة؟
الأستاذ علم الهدى: إن مسائل الأحكام ليست عادة من الفئات المعقدة. ولهذا يقولون: “العبرة بفهم العرف”؛ لأن المسائل متعلقة بأرض مشتركة. ولكن على كل حال، عندما تعتقد أنه يجوز تقليد الفقيه في الحكم، فأنت تعتقد بالضرورة أنه يجوز تقليد الفقيه في الموضوع؛ ولا يمكن الفصل بين الاثنين. فلا يمكن أن يقال إن الفقيه يجوز له التقليد في الحكم، ولكن لا يجوز له التقليد في الموضوع؛ لأنه لا يمكن الفصل بين الحكم والموضوع. فالأمران متشابكان ومرتبطان، ولا يتنافى أحدهما مع الآخر في تفاصيلهما٠
“فإذا عرف الفقيه موضوعاً فأفتى به، فكما أن حكمه دليل، فإن الموضوع الذي عرضه لهذا الحكم دليل أيضاً، إلا إذا تيقن أحد من وجه ما أن الفقيه أخطأ في معرفة الموضوع، فلا يكون رأي المفتي في العالم دليلاً؛ لأن صحة قول المفتي متعلقة بالصحة الظاهرة وافتراض عدم العلم، بينما فرضنا أن المكلف قد اكتسب علماً فعلياً من وجه ما؛ فلا يكون قول المفتي، كالإمارة، دليلاً على المكلف العليم٠
كذلك الحال في الحكم؛ إذا علم أحد من وجه ما أن الفقيه أخطأ في فتوى معينة أصدرها، لم تعد فتوى الفقيه دليلاً عليه٠
الفقه المعاصر: ما هو موضع الموضوع في العلوم الأخرى؟
الأستاذ علم الهدى: السؤال غامض.”إن كنت تقصد أهمية الموضوع في العلوم الأخرى غير الفقه فالجواب أن كل حكم في كل علم يتوقف على معرفة موضوعه ولا يجوز الحكم إلا بمعرفة الموضوع معرفة دقيقة فكل وصفة يكتبها الطبيب تتوقف على معرفة الحالة معرفة دقيقة لأنه لا يستطيع أن يكتب لها وصفة إلا بمعرفة موضع الألم وحالة الداء وهذا أمر لا جدال فيه٠
لكن إن كان قصدك هل يجب على الفقيه أن يرجع إلى علوم أخرى في معرفة الموضوع فلابد أن يقال: نعم أحيانا لابد وخاصة في الموضوعات الجديدة أن يرجع الفقيه إلى خبير ومختص في الموضوع ليحلل الموضوع ويشرحه له بدقة حتى يستطيع أن يستخرج الحكم من النصوص بالدليل٠
الفقه المعاصر: هل للموضوع في علم الفقه وخاصة الفقه المعاصر أهمية تختلف عن موضوع العلوم الأخرى؟
الأستاذ علم الهدى: بشكل عام فإن تنوع المواضيع في الفقه كبير جداً مقارنة بالعلوم الأخرى ويكاد يشمل كل المجالات، ولذلك فإن موضوع الفقه قد يكون أكثر أهمية لتنوع المواضيع واتساع نطاقها، أما في العلوم الأخرى فإن نطاقها أصغر مقارنة بعلم الفقه، ولذلك فإن أهميتها أقل ومحدودية٠