حجة الإسلام والمسلمين محمد هادي أنصاري‌پور في حوار خاص مع فقه معاصر

مبادئ فقه الاقتصاد/16

إن النمط الذي يؤسسه الاقتصاد الإسلامي يتضمن جانبين: جانب سلبي وجانب إيجابي. في الجانب السلبي، يقوم الاقتصاد الإسلامي على نفي الربا ونفي احتكار القطاع الخاص أو الحكومي؛ وفي الجانب الإيجابي، يعتمد على اقتصاد الشعب، وليس اقتصاد الحكومة أو القطاع الخاص.

إشارة:

حجة الإسلام والمسلمين محمد هادي أنصاري‌پور، باحث في الاقتصاد، يعمل منذ عدة سنوات في مجال البحث والتأليف في هذا المجال. مدير مجموعة الاقتصاد والحوكمة في مركز برهان للتوجيه، تحدث في حوار خاص مع فقه معاصر عن المبادئ والافتراضات الأساسية لفقه الاقتصاد. يرى هذا الأستاذ والباحث في فقه الاقتصاد أن أهم مبدأ للاقتصاد الإسلامي هو اعتماده على النظام الاجتماعي، ويعتقد أن الاقتصاد الإسلامي هو اقتصاد شعبي، وليس حكومياً ولا خاصاً. نص الحوار الخاص كما يلي:

فقه معاصر: بشكل عام، ما هي المبادئ والافتراضات الأساسية لفقه الاقتصاد؟
أنصاري‌پور: يمكننا القول إن فقه الاقتصاد له مبادئ خاصة به تُلقي بظلالها على كامل المعرفة الاقتصادية الإسلامية. بالطبع، نعني هنا بالفقه التفقه بمعنى الفهم العميق والديني لموضوع الاقتصاد الإسلامي، وليس بالضرورة طبقة الأحكام الشرعية، بل مجموع المعارف، المعتقدات، الاستراتيجيات، والعلوم المختلفة التي تشكل الاقتصاد الإسلامي، ونتحدث عن مبادئها.

من أهم مبادئ فقه الاقتصاد الإسلامي ما يلي:
المبدأ الأول: إعطاء الأولوية للمجتمع كمكلف مخاطب من قبل الشارع. مبدأ هام للغاية هو أن الله تعالى في القرآن الكريم يعتبر المجتمع كياناً حياً له هوية معنوية محددة، ويُعزى إليه الحياة، الممات، والحالات الاجتماعية المختلفة. لذا، من أهم المبادئ الأساسية هي إعطاء الأولوية للمجتمع إلى جانب إعطاء الأولوية للفرد. هذه النقطة لا تُلاحظ في بعض أقسام العلم الاقتصادي؛ فمثلاً، الاقتصاد الجزئي يعتمد على الفردية للفاعلين في المجال الاقتصادي، وعندما يتحدث عن المجتمع، يأخذ في الاعتبار نتيجة مجموع سلوكيات الأفراد. هذا يتعارض مع رؤية القرآن الذي يعتبر سلوك الفرد وسلوك المجتمع موضوعين مختلفين يتحملان عنوانين شرعيين مختلفين.

المبدأ الثاني: اعتماده الاقتصاد الإسلامي على النظام الاجتماعي. في الثقافة وفي الدين الإسلامي، يستند الاقتصاد إلى النظام الاجتماعي. الاقتصاد في نظر المكتب الشريف للإسلام ليس له أولوية ولا هو هدف بحد ذاته، بل هو مجرد أداة. الاقتصاد هو وسيلة لتحسين النظام الاجتماعي وتحقيق نجاحه. النظام الاجتماعي هو الذي له الأولوية وهو مقصود العديد من الاستراتيجيات والتعليمات الدينية. على سبيل المثال، يقول الشهيد الصدر في مقدمة كتابه “اقتصادنا”: إذا أردنا السير وفق الترتيب الصحيح، كان يجب أن نكتب بعد كتاب “فلسفتنا” كتاب “مجتمعنا” ثم كتاب “اقتصادنا”؛ لأن الاقتصاد الإسلامي يعتمد على النظام الاجتماعي الإسلامي وهو أحد شؤونه. لكن نفوذ الأفكار الشيوعية وهجوم التيارات الماركسية جعل الأصدقاء يطالبون بكتاب “اقتصادنا” فأصبح له الأولوية.
كما يُنسب إليه قوله: لم أكتب كتاب “مجتمعنا” وأخرته بسبب الوضع الذي أصبحت عليه الأمة الإسلامية.
على أي حال، في فكره، النظام الاقتصادي متجذر تماماً في النظام الاجتماعي. هذا واضح تماماً في التعليمات القرآنية والروائية. إذا دققت في القرآن، ستلاحظ أن الهدف من النظام الاقتصادي ليس تعظيم الربح، بل تعظيم الروابط الاجتماعية التي تتشكل في المجتمع الإيماني، وهي الروابط التي يُشار إليها باسم الولاية. الهدف من التعليمات الاقتصادية هو تعزيز هذه الروابط، سواء كانت ولايات متعلقة بالنظام الاجتماعي مثل شبكة الصداقة الإيمانية، شبكة القرابة الإيمانية (أي القرابة المؤمنة)، أو شبكة صداقة الجيران. هذه الهوية الاجتماعية، بأي شكل كانت ومهما كانت جذورها الاجتماعية، تُؤكد عليها القرآن والأحاديث. التعليمات الكثيرة في القرآن والأحاديث حول الأقرباء والنظام الاجتماعي القائم على شبكات القرابة ليست مجرد تعليمات مستحبة أو زخرفية، بل هي تعليمات أساسية وجوهرية في الدين. هذه التعليمات تهدف إلى تحقيق مفهوم الولاية المقدس، والتفاعلات الاقتصادية هي تفاعلات تهدف إلى تعزيز هذا المفهوم المقدس وتحقيقه. لذا، النظام الاقتصادي في المنطق الإسلامي يعتمد كلياً على النظام الاجتماعي، ويستهدف في أهدافه تعزيز وتمكين النظام الاجتماعي، وليس تحقيق الربح المتزايد. الإنسان الاقتصادي القرآني ليس إنساناً ينظم تفاعلاته الاقتصادية بهدف تحقيق الربح، ولا يسعى لتعظيم الربح كغاية قصوى، بل يسعى لتعظيم العلاقة الولائية مع المؤمنين والعلاقة مع الله تعالى.

المبدأ الثالث: صورة الإنسان الاقتصادي في القرآن تختلف عن الإنسان الاقتصادي التقليدي. على سبيل المثال، مفهوم الإنفاق في القرآن أكبر بكثير من تصور الاقتصاد التقليدي الذي يتجلى في أعمال الخيرية غير الربحية. صورة القرآن لمفهوم الإنفاق والمجتمع الذي ينتشر فيه الإنفاق هي مفهوم أساسي وجوهري. الإنسان الاقتصادي القرآني هو إنسان تكون همته وأسلوبه في العمل أكثر ارتباطاً بالمفاهيم المتعلقة بالمبادلات المالية التي تكون في سبيل الله ولرضاه، وفي الوقت ذاته تعزز نظامه الاجتماعي، ولذا فإن القضية الأساسية ليست تحقيق الربح والمنفعة.

فقه معاصر: هل الاقتصاد الإسلامي يتضمن فقط بعض الأحكام المميزة عن غيره من الأنظمة الاقتصادية، أم أنه يقدم نظاماً مستقلاً عنها؟
أنصاري‌پور: للإجابة على هذا السؤال، يجب أولاً تحديد مؤشرات النظام المستقل، ثم معرفة ما إذا كان الاقتصاد الإسلامي نظاماً مستقلاً أم لا. ما هي مؤشرات النظام المستقل؟ النظام المستقل هو نظام غائي، له مكونات مترابطة تتجه في أدائها نحو تلك الغاية، تتمتع بالانسجام ولا تتعارض، ويحكمها روح واحدة.

الآن، هل نرى مثل هذا في النظام الاقتصادي الإسلامي أو في مجموعة التعاليم الاقتصادية الإسلامية، أم أن التعاليم الاقتصادية الإسلامية هي مجرد أحكام متفرقة ومتميزة؟ ما يظهر بعد دراسة التعاليم الاقتصادية للإسلام، وبشكل واضح للغاية، هو أن التعاليم الاقتصادية للإسلام تشكل بلا شك نظاماً مستقلاً غائياً يتضمن مكونات مترابطة منسجمة ومتناظرة، تتجه جميعها نحو هدف واحد وتدعم روحاً واحدة. لذا، النظام الاقتصادي الإسلامي هو بالتأكيد نظام مستقل، سواء على مستوى المكتب، أو على مستوى المعرفة، أو على مستوى العلم.

فقه معاصر: هل يمكن، مع النهج الأدنى للفقه، الادعاء بباب فقهي يُسمى “فقه الاقتصاد” أو معرفة تُسمى “الاقتصاد الإسلامي”؟
أنصاري‌پور: مع النهج الأدنى للفقه، يمكن تأسيس فقه اقتصاد وكتابة وتدريس فقه الاقتصاد. لكن، هل يمكن لهذا الفقه الاقتصادي أن يفيد في بناء النظام الاقتصادي الإسلامي وتحقيق غايات وأهداف التعاليم الاقتصادية الإسلامية؟ أعتقد أن هذا لن يحدث. بل إن مثل هذا النهج للفقه سيكون، في الواقع، ممهداً للأنظمة المعرفية الكبرى التي أنشأتها العلوم والمعارف غير الإلهية وفرضتها علينا. في العملية، لديك مجموعة من التعاليم التي يمكن ترجمتها وتفسيرها بطرق مختلفة وحتى متعارضة أحياناً. هذا يتطلب معياراً ومؤشراً لتحديد أي نوع من التعاليم تختار؟ هل لديك صورة لمجموعة منسجمة تتحرك نحوها هذه التعاليم، أم لا توجد صورة على الإطلاق؟

إذا كان شخص ما يؤمن بالرأي الثاني ويتبنى نهجاً أدنى للفقه، سواء على مستوى رؤية النظام أو عدم رؤيته، أو على مستوى رؤية الفقه الفردي أو فقه المجتمع للاقتصاد الإسلامي، فسوف يواجه مشاكل كثيرة، ليس فقط له ولكن للمجتمع بأسره. من هذا التفقه، ينشأ تجويز حيل الربا. تفقه لا يدرك ما يفعله، تفقه يحمل اسماً فقط لكنه في الواقع مليء بالجهل. لا يعلم أنه باستخدام بعض الروايات التي لا تقاوم أمام حجم الآيات القرآنية الشديدة والغليظة، يقوم بعمل يعطل النظام الاقتصادي بأكمله ويحول دون تحقيق هدفه. من يرتكب هذا الخطأ؟ الذي لم يفهم أبداً أن نهجنا في الفقه وفقه الاقتصاد يجب أن يكون نهجاً لتنظيم المجتمع، وليس نهجاً للإجابة عن مسائل فرد أو أفراد. لم يضع الله تعالى الفقه ولم يأت بهذا الدين ليجلس الناس في فضاء تديره نظرات غير إلهية ويمارسون بعض الأعمال الفردية الشخصية التي تُهضم كلها في تلك النظرة غير الإلهية. انظر إلى الصلاة والصوم والعبادات، يمكن أن تُؤدى في مجتمع لا يتوافق روحه العامة مع روح النظام الاجتماعي الإسلامي ويتعايش مع الظلم والنهب، كما في السعودية حيث تُقام الصلاة بشكل منظم جداً، لكن هل هذه الصلاة هي التي أمر بها القرآن؟ هل هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر؟ هل هي الصلاة التي، إلى جانب إيتاء الزكاة ونفي الظلم والعديد من التعاليم الإسلامية، تقود الإنسان إلى ذكر الله؟ بالتأكيد ليست كذلك، ولن يكون لهذه الصلاة أي أثر على المصلي. كما جاء في الأصول الكافي أن الأعمال الفردية لا يمكنها تغيير مسار النظام الاجتماعي.

لذا، هذه النظرة، التي يُعد الفقه الأدنى أحدها، ضررها أكثر من نفعها، ولا تفيد المجتمع الإسلامي، بل تدفع بالنظام العلمي والاجتماعي إلى القهقرى.

فقه معاصر: إلى أي مدى تجعل النظرة الإلهية في القضايا الاقتصادية الجمل القانونية للاقتصاد الإسلامي مختلفة عن الجمل الاقتصادية للمدارس الأخرى؟
أنصاري‌پور: الاقتصاد الإسلامي، مقارنة بالاقتصاد في المدارس الأخرى مثل الشيوعية أو الاقتصاد الرأسمالي، هو عوالم مختلفة تماماً. هذه ليست مجرد جمل مختلفة. النظرة الإلهية الموجودة في الاقتصاد الإسلامي تقلب كامل هوية هذا العلم رأساً على عقب، ومن القصر في الرؤية أن يظن أحد أن الجمل الاقتصادية الإسلامية لم تتأثر بهذه النظرة الإلهية ولم تأخذ اتجاهاً معيناً.

فقه معاصر: هل يقدم الاقتصاد الإسلامي، في مواجهة الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية والشيوعية، نمطاً ثالثاً؟ وما هو هذا النمط؟
أنصاري‌پور: النظام الاقتصادي الإسلامي يقدم بالتأكيد نمطاً ثالثاً. إذا ظن أحد أن الاقتصاد الإسلامي غير موجود، أو أن الاقتصاد الإسلامي يقتصر على بعض الجمل الفقهية الصغيرة، أو أنه لن يكون له تأثير كلي، فهذا الشخص لم يفهم الاقتصاد التقليدي ولا التعليمات الاقتصادية الإسلامية. إذا فهم أحد الاقتصاد التقليدي وأدرك التعليمات الاقتصادية الإسلامية بعمقها، فسيحكم بالتأكيد بفصل تام من الأساس إلى البناء الفوقي، من المكتب إلى العلم والمعرفة، في هذين الكيانين.

إن النمط الذي يؤسسه الاقتصاد الإسلامي يتضمن جانبين: جانب سلبي وجانب إيجابي. في الجانب السلبي، يقوم الاقتصاد الإسلامي على نفي الربا ونفي احتكار القطاع الخاص أو الحكومي؛ وفي الجانب الإيجابي، يعتمد على اقتصاد الشعب، وليس اقتصاد الحكومة أو القطاع الخاص. في مقالتي «الاقتصاد الشعبي، نموذج الاقتصاد القرآني»، قدمت بعض الأدلة والشواهد لهذا الادعاء.

باختصار، الاقتصاد الإسلامي هو اقتصاد يكون فيه الشعب، بمعناه الحقيقي، هو السيد في المجموعات الاجتماعية التي يشكلها، وتتجلى الديمقراطية الشعبية في المجال الاقتصادي. في هذا الاقتصاد، يتولى القادة الإلهيون في المجتمع دور التوجيه والإشراف ومكافحة الانحرافات، بينما الفاعلية في يد الشعب، وليس الحكومة أو القطاعات الخاصة الكبيرة والثرية. هذه العمالقة الثروية تستأجر الآخرين وتوظفهم، مما يخلق نوعاً من العبودية الحديثة مع الحفاظ على المظاهر للطبقة الدنيا. إنهم يصلون إلى ثروات هائلة ويعطون جزءاً يسيراً منها للطبقة الدنيا، التي بدورها، بسبب جهلها، ترضى بهذه الحياة ولا تصل إلى مرحلة الاحتجاج. لكن الاقتصاد الإسلامي يمكّن الشعب في إطار المجموعات والشبكات الاجتماعية، يزيد من اقتدارهم، وهذا الاقتدار يصل إلى نقطة اتخاذ القرار والقدرة على اتخاذ القرارات. يستطيع الشعب، في إطار الشبكات الاجتماعية، أن يتحرك بقراراته نحو الأهداف التي يوصي بها القادة الإلهيون في المجتمع. الفاعلية والحركة في أيديهم، ودور الحاكمية هو فقط إزالة الهياكل المشكلة لنشاط وإنتاجية الشعب، مثل إزالة الاحتكارات، اللوائح، القوانين، والتراخيص المعقدة، والتمويل القائم على الربا وغيرها.

لذا، ما يطرحه الاقتصاد الإسلامي هو نظام متجانس ومنسجم يتحرك نحو أهدافه الخاصة، وهو مختلف تماماً عن الاقتصاد التقليدي من الأعلى إلى الأسفل.

Source: External Source