إشارة: الفقه الأدنى، كنقاش جاد في مواجهة الفقه الأقصى، على الرغم من أنه لا يخلو من المتابعين والمؤيدين، إلا أن أبعاده وزواياه لم تُحلل بعمق كنظرية. ربما يعود جزء من هذا النقص إلى معارضة هذا المنظور للرؤية الرسمية في البلاد. حسن إجرائي، باحث في الحوزة العلمية بقم، يحاول في هذه المقالة الحصرية لمجلة الفقه المعاصر أن يصف أبعاد هذه النظرية، وتداعياتها، والتفاصيل الدقيقة التي تشكلت ضمنها.
الفقه الأدنى: تلاقي الشريعة والعقل
الفقه الأدنى، كسؤال عميق ينبثق من قلب القضايا المعقدة للعصر الحديث، يعيد تعريف الشريعة الإسلامية بنظرة إلى التغيرات الزمنية والاجتماعية. هذا النهج، الذي يبتعد بوضوح عن الفقه الأقصى، يسعى إلى رؤية مبادئ الشريعة ليس كمجموعة قوانين ثابتة وغير قابلة للتغيير، بل كأداة ديناميكية وقابلة للتكيف مع البشر في كل زمان ومكان. يؤمن الفقه الأدنى بأن الأحكام الإسلامية يجب أن تُفسر بما يتناسب مع التغيرات الاجتماعية والثقافية والفلسفية لكل عصر، بحيث تستمر في مساعدة البشر على السير في مسارهم الأخلاقي والروحي. هذا النهج لا يستفيد فقط من قوة العقل والاجتهاد البشري، بل يسعى من خلال نقد وإعادة قراءة التقاليد الدينية إلى إيجاد التوافق بين مبادئ الشريعة واحتياجات المجتمع الجديدة. الفقه الأدنى لا يهدف فقط إلى معالجة القضايا الفردية والدينية، بل يسعى إلى تهيئة الأرضية التي تمكن الشريعة من لعب دور ذي معنى وفعال في القضايا الاجتماعية والسياسية والأخلاقية في العالم الحديث. أحد الجوانب الرئيسية للفقه الأدنى، خاصة في العالم المعاصر، هو أن الشريعة لا يمكن ولا ينبغي أن تُرى كنظام ثابت ومحدد مسبقًا، بل يجب أن تكون في حوار دائم مع العقل البشري والتغيرات الاجتماعية. يريد الفقه الأدنى تجاوز الأطر المغلقة للماضي، ومن ثم إعادة بناء الشريعة في سياق الحياة اليومية والتغيرات البشرية بشكل مستمر.
تعريف وماهية الفقه الأدنى
ينظر الفقه الأدنى إلى الشريعة باعتبارها أداة وإرشادًا للحياة الروحية والأخلاقية للإنسان، وليس كمجموعة من القوانين الثابتة والموحدة لجميع المجتمعات والأزمنة. في هذا المنظور، الشريعة ليست بنية ثابتة وغير متغيرة، بل هي مجموعة من المبادئ الأخلاقية والدينية التي يمكن تفسيرها وإعادة قراءتها في سياق التاريخ والتغيرات الاجتماعية والثقافية. وفقًا لهذا النهج، يلعب العقل البشري دورًا أساسيًا في فهم وتطبيق الشريعة، ويجب تحديثه باستمرار لتكييف الأحكام مع الاحتياجات الاجتماعية والثقافية الراهنة. يؤكد الفقه الأدنى، بشكل خاص، على أن أيًا من الأحكام الدينية لا يمكن أن يظل ثابتًا وموحدًا بشكل مطلق في كل عصر ومكان. في هذا المنظور، تعمل النصوص الدينية كمبادئ عامة يجب أن تتكيف مع الواقع الراهن في كل عصر وظرف. في الحقيقة، يريد الفقه الأدنى تحرير الشريعة من التجمد، ومنحها القدرة على إعادة قراءتها بفعالية ومعنى في مواجهة تعقيدات الحياة البشرية الجديدة والتغيرات الاجتماعية. في هذا النهج، يُنظر إلى الدين ليس كنظام قانوني وحقوقي، بل كإرشاد أخلاقي وروحي يجب أن يتطور بالتوازي مع احتیاجات المجتمع البشري عبر الزمن.
الأساليب المتضادة والمتناقضة: من الإصلاحات إلى الصراعات
في الفضاء الفكري المحيط بالفقه الأدنى، طُرحت آراء متنوعة، تؤكد من جهة على أهمية العقل والتجربة البشرية، ومن جهة أخرى على الحفاظ على مبادئ الشريعة وإعادة النظر فيها. بعض المفكرين الإصلاحيين، مثل محمد مجتهد شبستري، يرون في تحليلاتهم، خاصة في مجال أولوية الأخلاق على الفقه، أن الشريعة لا ينبغي أن تُعتبر فقط مجموعة من التعليمات الجافة والمحددة مسبقًا. يعتقد شبستري أن الشريعة يجب ألا تُفهم فقط كمجموعة من الأحكام التي تحكم الشعائر الدينية، بل كنظام أخلاقي وإنساني يتطور وفقًا للظروف والاحتياجات الاجتماعية. رؤية شبستري، خاصة في مجال أولوية الأخلاق، تُعد أحد الأعمدة الأساسية للفقه الأدنى. من وجهة نظره، يجب أن تهدف الشريعة إلى توجيه الإنسان نحو الكمال والعدالة، ولكن يجب أن يكون هذا التوجيه مع مراعاة العقل واحتياجات المجتمع البشري. يجب فهم الشريعة بطريقة تتوافق مع الواقع الراهن في كل زمان ومكان. من ناحية أخرى، بعض المفكرين مثل مصطفى ملكيان، الذين قدموا آراءهم بناءً على الإنسانية الأخلاقية، يؤكدون على أهمية المبادئ الإنسانية والأخلاقية. يرى ملكيان أنه يجب التأكيد على المبادئ الأخلاقية والعقلانية لمقدمات إنسانية في تفسير الشريعة. ينظر إلى الشريعة كأساس أخلاقي اجتماعي يجب أن يكون في خدمة سعادة ورفاهية البشر. تتماشى آراء ملكيان مع الفقه الأدنى لأنها تؤكد على العقلانية والإنسانية. وأخيرًا، تُطرح نظرية “التقارب”، خاصة بين أولئك الذين يبحثون عن حلول وسط بين الفقه الأقصى والفقه الأدنى. هذه النظرية، التي طرحها سيد صادق حقيقة، تسعى إلى ربط المبادئ الدينية بالاحتياجات الاجتماعية المتغيرة. التقارب يعني ربط وجهتي نظر متضادتين، بحيث يحافظ في الوقت ذاته على المبادئ الدينية ويستجيب للتغيرات والاحتياجات الراهنة.
نظرية التقارب: تلاقي العقل والشريعة في العصر الحديث
تُعد نظرية التقارب ربما واحدة من أبرز النظريات وأكثرها جاذبية في مجال الفقه الأدنى، والتي طُرحت بشكل خاص للاستجابة لاحتياجات العالم المعاصر. التقارب يعني التفاعل والتلاقي بين تيارين يبدوان متضادين: التقليد الديني والعقل البشري. تسعى هذه النظرية إلى إظهار كيف يمكن خلق تآزر وانسجام بين الشريعة والعقلانية البشرية. لا تهدف نظرية التقارب فقط إلى الحفاظ على المبادئ الثابتة للشريعة، بل تريد تفسيرها في سياق التغيرات الاجتماعية والفلسفية للعصر الحالي. تؤمن هذه النظرية بأن الشريعة لا يمكن أن تُعتبر مجموعة ثابتة ومحددة مسبقًا، بل يجب أن تكون في تفاعل دائم مع العقلانية والتغيرات الفلسفية. في هذا المنظور، تُطرح الشريعة كظاهرة حية وديناميكية يجب تفسيرها وإعادة قراءتها باستمرار من خلال العقل والتجارب البشرية. كما تؤكد هذه النظرية على أن أيًا من القطبين، أي الشريعة والعقل، لا يمكن فصلهما بشكل مطلق عن بعضهما البعض؛ بل يجب أن يكونا في تفاعل وتآزر دائمين. لا تستطيع الشريعة أن تعمل فقط كمجموعة دينية، بل يجب أن تُوجه بالتوازي مع العقلانية البشرية نحو مصالح وسعادة البشر. تكتسب نظرية التقارب أهمية خاصة في مجالات الفقه الاجتماعي، والحكم الإسلامي، وحقوق الإنسان. تسعى هذه النظرية إلى تهيئة المبادئ الإسلامية والدينية لتتوافق مع الاحتياجات الإنسانية والديمقراطية والإنسانية. هذا يعني الحفاظ على المبادئ الأخلاقية للشريعة مع تكييفها مع التغيرات الاجتماعية والاحتياجات البشرية الجديدة.
الفقه الأدنى ومسألة الحكم الإسلامي: التحديات والحلول
أحد أكبر التحديات التي تُطرح في سياق الفقه الأدنى، والتي تُناقش في العديد من المناقشات الفقهية والاجتماعية، هو مسألة الحكم الإسلامي. بينما يرى الفقه الأقصى الشريعة بشكل صريح وقاطع كأساس للحكم، ويعتبر جميع الشؤون الاجتماعية والسياسية خاضعة لقوانين الشريعة الثابتة والتفصيلية، يواجه الفقه الأدنى، خاصة في العصر الحالي، تساؤلات جادة حول إمكانية وكيفية تشكيل الحكم الإسلامي. من منظور الفقه الأدنى، يمكن اعتبار الشريعة كنظام أخلاقي وروحي، ولكن لا يمكن بالتأكيد تطبيقها كنظام شامل وشامل لتنظيم العلاقات الاجتماعية والحكومية في العالم المعاصر.
السؤال الأساسي هو: هل يمكن بناء الحكم الإسلامي على أساس الفقه الأدنى؟ ينظر الفقه الأدنى إلى الشريعة كنظام يتماشى مع الاحتياجات الاجتماعية، ويريد تحرير الشريعة من قوالب القوانين الثابتة وغير القابلة للتغيير، وتفسيرها كمبدأ أخلاقي وإنساني واجتماعي. في هذا المنظور، يجب أن تكون الشريعة إرشادًا لتعالي الإنسان الروحي، ولكن في المجالات الاجتماعية والسياسية، يجب الاستفادة من العقلانية والعرف والتجربة البشرية.
من وجهة نظر الفقه الأدنى، في المجتمعات المعاصرة، لا يمكن تحديد قوانين ثابتة وغير قابلة للتغيير بناءً على الشريعة لجميع جوانب الحكم. خاصة مع الأخذ في الاعتبار التعقيدات والتغيرات التي مرت بها المجتمعات البشرية خلال القرون الأخيرة، فإن الاعتماد فقط على النصوص الدينية وتنفيذها في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ليس ممكنًا فحسب، بل قد يؤدي إلى فرض نظام غير فعال وغير متوافق مع الظروف الجديدة. لذلك، يؤمن الفقه الأدنى بضرورة استخدام قدرات العقلانية والاجتهاد البشري لتكييف الأحكام الإسلامية مع الوضع الحالي للمجتمع. بعبارة أخرى، بدلاً من التأكيد على الشريعة كقانون ثابت ودائم في القضايا الاجتماعية، يركز الفقه الأدنى على الحاجة إلى إعادة النظر في القوانين والاهتمام بالاحتياجات الراهنة. في هذا المنظور، يجب أن يُبنى الحكم الإسلامي على أساس المبادئ الأخلاقية والإنسانية للشريعة، ويجب أن تكون القوانين منسجمة مع العقل والتجارب الاجتماعية الحديثة. هذه المسألة، خاصة في مجالات مثل حقوق المواطنة، والحريات الفردية، والمشاركة السياسية، والحكم الحديث، تتطلب التفكير والاجتهاد. يسعى الفقه الأدنى إلى وضع الشريعة في إطار ديناميكي وقابل للتكيف، يظل وفيًا للمبادئ الأخلاقية العليا للإسلام، وفي الوقت ذاته يستجيب لاحتياجات المجتمعات البشرية الحديثة. هذا لا يعني أن الشريعة يجب أن تُستبعد من مجال الحكم والسياسة، بل يجب استخدامها كمصدر للإرشاد الأخلاقي والإنساني، وليس كإطار مغلق وثابت يغطي جميع القضايا الاجتماعية والحكومية. يؤكد هذا النهج على أنه لا يمكن فرض الأنظمة الدينية بشكل مغلق وثابت على المجتمع، بل يجب استخدام قدرات العقل والتجربة البشرية في تفسير وتنفيذ الأحكام الإسلامية.
البحث عن التوازن بين التقليد والحداثة
في الختام، يسعى الفقه الأدنى، من خلال طرح أسئلة أساسية وتحديات جادة حول كيفية تفاعل الشريعة مع احتياجات العالم المعاصر، إلى إيجاد توازن بين التقليد الديني والحداثة. يُطرح هذا النهج بشكل خاص في المجتمعات الإسلامية التي تبحث عن طريق لتكييف المبادئ الدينية مع التغيرات الاجتماعية والسياسية، كنموذج فكري جديد. الفقه الأدنى لا يسعى فقط إلى الحفاظ على مبادئ الشريعة، بل يراها كنظام ديناميكي وقابل للتكيف مع التغيرات الاجتماعية والفلسفية؛ بينما يجب أن تظل الشريعة مصدرًا للإرشاد الروحي والأخلاقي للبشر، ينبغي لها في الوقت ذاته أن تكون قادرة على مواكبة التطورات واحتياجات المجتمع البشري. هذا التوافق بين الشريعة واحتياجات العصر لا يساهم فقط في الحفاظ على الأصالة الدينية، بل يمهد الطريق أيضًا لتحقيق العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان في العالم المعاصر. يسعى الفقه الأدنى، خاصة في مجالات الحكم الإسلامي والقوانين الاجتماعية، إلى استخدام الشريعة كأداة للإرشاد الأخلاقي، مع الاستفادة من العقل والتجربة البشرية. في هذا المسار، يجب السعي إلى إقامة توازن مستدام بين المبادئ الدينية الثابتة والتغيرات الزمنية، بحيث يحرر الشريعة من الجمود والثبات، ويستفيد من رسائلها الأصيلة لبناء مجتمع عادل وإنساني. يمكن للفقه الأدنى، بنظرة إلى المستقبل، أن يكون نموذجًا لإعادة بناء الشريعة الإسلامية في العالم المعاصر؛ نموذجًا يحافظ فيه الشريعة على دورها الإرشادي، ولكنه يتحرك باستمرار نحو التأمل والمرونة في مواجهة التغيرات الاجتماعية والثقافية. في هذا الطريق، يمكن أن يكون التفاعل والتآزر بين التقليد الديني والعقل البشري بمثابة مصباح مضيء للمجتمعات الإسلامية في مسار التقدم والرقي.