عنوان الإفساد، بتعبير دقيق «الإفساد في الأرض»، اشتهر أكثر في الفقه الجزائي؛ لكن هناك عنوانًا آخر مشابهًا يُستخدم كثيرًا في فقه الفنون، وهو «الإفساد». هذا العنوان، يُنتج أحيانًا حكم الحرمة أو المنع عند تطبيقه على نشاط فني معين. الحجة الإسلام والمسلمين محسن شيخاني، يرى أن هذا العنوان هو عنوان انتزاعي في الأساس، ولا ماهية له سوى العناوين الخاصة بالمحرمات التي تندرج تحته. شيخاني، وهو من مواليد مشهد، انتقل إلى قم وتتلمذ على يد أساتذة مثل الآيات وحيد خراساني، روحاني، وتبريزي، وهو الآن يدرّس درس خارج الفقه والأصول في الحوزة منذ عدة سنوات. وفيما يلي الحوار الخاص الذي أجرته معه الدراسات الفقهية المعاصرة:
الفقه المعاصر: ما هو الإفساد؟ وهل يمكن تطبيقه على أنواع الفنون؟
شيخاني: الإفساد هو نقيض الإصلاح، والفساد نقيض الصلاح. الإفساد يعني ما يؤدي إلى إفساد الموازين، أو إفساد الوضع الطبيعي أو الحالة الطبيعية، أو سلوك طريق يخالف ما وُضع لكمال شيء ما. الإفساد له معنى عرفي واضح جدًا، وآثاره هي الضرر، الخسارة، الهلاك، والدمار. على سبيل المثال: فساد الفاكهة يكون في عدم وصولها إلى كمالها، أي أن تصل الفاكهة إلى حالة تسبب الضرر. كذلك الإنسان قد يعمل بما يؤدي إلى صلاح المجتمع، صلاح نفسه، وصلاح الآخرين، أو قد يعمل بما يؤدي إلى الهلاك والضرر. فإذا قال أحدهم إنه يرغب في إحداث هذا الضرر، فهذا لا يجعل الضرر يتحول إلى منفعة، أو الفساد يتحول إلى صلاح. على سبيل المثال، الخمر مضر بالجسم البشري، فإذا أصبح شربها متعارفًا في مكان ما، وأحب الجميع تحمل هذا الضرر، فهذا لا يعني أن الضرر يتحول إلى منفعة. في الإسلام، يمكن تصوير الأمر على النحو التالي: كل ما يبعد الإنسان عن الله يُعد فسادًا، وإن اختلفت مراتبه، وليس كل مراتبه تؤدي إلى الحرمة.
والبعد عن الله قد يكون بانتباه أو بدون انتباه. كل ما يبعد الإنسان عن الله ويقربه إلى الشيطان يُعد فسادًا.
الفقه المعاصر: هل هناك دليل شرعي يدل على حرمة الإفساد أو عدم رجحانه بشكل مطلق؟
شيخاني: قبل الحديث عن الدليل الشرعي على الحرمة، من المناسب مناقشة ما إذا كان الفساد أو الإفساد عنوانًا خاصًا أم عنوانًا عامًا ينطبق على مصاديقه؟
في القرآن الكريم، هناك آيات تتعلق بالإفساد، منها: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ» (البقرة، ١١-١٢)، حيث يقول عن المنافقين: إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض، قالوا: بل نحن مصلحون ولسنا مفسدين. ثم يقول القرآن: «أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ»؛ إنهم هم المفسدون ولكنهم لا يشعرون ولا يدركون أن سلوكهم ونفاقهم يسبب الفساد في الأرض.
وفي سورة المائدة، بخصوص المحارب، يقول: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا»؛ فالمحاربون هم الذين يسعون لإفساد في الأرض.
وفي سورة المائدة أيضًا، بخصوص اليهود الذين قالوا إن يد الله مغلولة، يقول: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا» (الآية ٦٤)، حتى يصل إلى قوله: «كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ»؛ كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله، «وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا»؛ ويسعون في الأرض فسادًا، «وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ». قد يُستدل من هذه العبارة على حرمة الإفساد، وسأشير إلى ذلك إن شاء الله في ختام الموضوع.
السعي في الفساد في الأرض ليس عنوانًا خاصًا، بل هو عنوان عام ينطبق على عناوين مختلفة، منها ما جاء في سورة الرعد: «وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ». من هذه الآية يتضح أن الفساد في الأرض يؤدي إلى لعنة الله وعاقبة سيئة ومصير رديء. وسوء الدار كناية عن نار جهنم.
في الآيتين ١٥١ و١٥٢ من سورة الشعراء: «وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ»، يُعد الإسراف مصداقًا للفساد في الأرض، وأمر المسرفين يُعد مصداقًا للفساد في الأرض.
وفي الآية ٦٤ من سورة المائدة المتعلقة باليهود، يُطبق الفساد في الأرض على إشعال نار الحرب. وإشعال نار الحرب لا يعني إيقاد نار مادية في مكان ما، بل المقصود إثارة الحروب أو إحداث الفتنة بين الناس أو إهلاكهم.
من التوضيحات أعلاه، يتضح أن الإفساد عنوان عام مثل الظلم والمعصية. وكما لا توجد معصية حلال، لا يوجد إفساد حلال، وإن اختلفت مراتبه.
يبدو أن الأدلة الثابتة لحرمة المحرمات كافية لإثبات حرمة الفساد. التعبيرات مثل «ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ» في سورة المائدة، و«أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» في سورة الرعد، ليست خاصة بحالة معينة، بل هي عامة تشمل كل من يفسد في الأرض؛ لذا يمكننا استنباط حرمة عنوان الفساد في الأرض من هذه الآيات. وهذه الحرمة، بالطبع، حرمة إرشادية وليست مولَوية، بمعنى أنه ليس إذا ارتكب شخص محرمًا، يتحمل عقوبتين: واحدة لارتكاب الحرام، وأخرى للفساد؛ بل الفساد يشير إلى تلك المحرمات ذاتها، ولا يترتب عليه عقاب منفصل.
الفقه المعاصر: هل يوجد فن بذاته يُعد مصداقًا للإفساد، أم أنه دائمًا يُعد مصداقًا للإفساد بسبب مقارنات مثل اختلاط الرجال بالنساء، أو المحتوى غير المناسب والمضلل، وما إلى ذلك؟
شيخاني: فيما يتعلق بالفن، يرى البعض أنه حلال بذاته، ويرى آخرون أنه عنوان عام ينطبق على الحلال والحرام. لكن أحيانًا يكون الفن بذاته مصداقًا للمحرمات الإلهية. هذه الحرمة ليست بسبب اختلاط الرجال بالنساء أو بسبب محتوى فاسد، بل بسبب نفس عنوان ذلك الفن؛ مثل فن القمار أو الموسيقى المناسبة لمجالس الفسق والفجور، حيث الرأي المشهور بين الفقهاء المتأخرين هو حرمة الموسيقى.
الفقه المعاصر: هل تطبيق عنوان الإفساد أو عدم تطبيقه من وظائف الفقيه، أم العرف العام، أم المكلَّف؟
شيخاني: تحديد مفهوم الفساد، من حيث كونه عنوانًا عرفيًا وليس حقيقة شرعية، يعود إلى العرف العام؛ أما تطبيقه، أي ما إذا كان هذا مصداقًا للفساد أم لا، فهو موكول إلى المكلَّف. كل مكلَّف، بحسب الحجة التي تقوم له، قد يرى أن هذا فساد، فيصبح حرامًا عليه، أو قد يرى أنه ليس فسادًا، فلا يكون حرامًا عليه. ومع ذلك، في بعض الحالات، يكون تحديد مصاديق الموضوع من وظيفة الفقيه، كما في مسائل القصاص واسترجاع المال، حيث يجب أن يحددها الفقيه، ولا يجوز للمكلَّف أن يقتص من أموال شخص بدعوى أنه مدين له بناءً على اجتهاده الشخصي.