أستاذ درس خارج الفقه في الحوزة العلمية بقم، في حوار خاص مع معهد دراسات الفقه المعاصر

عناوین الحرمة فی فقه الفنون/27

لم يُرَ أثر واضح لفن العمارة في مجتمع العرب المعاصر للنصوص الشرعية. البناء الشهير والمعروف لديهم كان الكعبة التي كانت من حيث العمارة في غاية البساطة وخالية من أي ميزة فنية. كان طبيعياً أن في صدر الإسلام أيضاً، مع هذه الذهنية بأن الدنيا محل عبور وليست لها أهمية كبيرة، أن الفنون الزخرفية التي تلصق بها علامة الدنيوي والاهتمام بالدنيا، ذهبت إلى الهامش أكثر، مضافاً إلى أن بعض المجالات المرتبطة بالفن واجهت الردع والنهي من الشريعة.

واحدة من الإيرادات التي يدخلها الفنانون على الفقهاء، عدم معرفتهم بالمواضيع الفنية. بحسب اعتقاد الفنانين، كثير من العناوين الفقهية أصلاً غير قابلة للتطبيق على مصاديق الفن اليومية، أو مطبقة خطأً. في هذا الوسط، حجية قول الخبير، أمر مقبول تقريباً بين الفقهاء. الآن السؤال هو أنه لتطبيق عناوين مثل اللهو، اللغو، اللعب وما شابه ذلك التي تستخدم لإثبات حرمة بعض أنواع الفن، هل يمكن الاعتماد على الخبير؟ بهذه المناسبة، تحدثنا مع الأستاذ السيد صادق علم الهدى. هذا الأستاذ في درس خارج الفقه والأصول في الحوزة العلمية بقم يعتقد أن خبرة الفنانين في المقولات الفنية، محل تشكيك، وكذلك حجية قول الخبير في هذه الحالات. تفاصيل الحوار الخاص لفقه معاصر مع هذا الأستاذ في الحوزة العلمية بقم، تمر أمام أنظاركم. هذا الحوار نشر في المجلة الإلكترونية «مبادئ فقه الفن» التي أنتجت بالمشاركة مع معهد دراسات الفقه المعاصر، ومدرسة فقه الفن، وموقع شبكة الاجتهاد.

فقه معاصر: ما رأيكم في حجية قول الخبير؟

علم الهدى: بحث حجية قول الخبير مطروح في موضوعات الأحكام، وحتى الآن الذي أعرفه، لا يرى أي فقيه قول الخبير في نفسه وبما هو قول خبير حجة؛ لأنه لا يوجد أي دليل شرعي على حجيته التعبدية. من وجهة نظري المتواضعة، حتى لا يوجد دليل قاطع على حجية خبر الثقة أو خبر العدل في الأحكام أيضاً على الرغم من أن حجية خبر الثقة، حصلت شهرة كبيرة بين المتأخرين؛ لذا بمجرد إعلان رأي خبير في موضوع، لا ينتهي العمل للفقيه.

بالطبع في المواضيع التي يتوقف تشخيصها على الخبرة، يمكن وبل يجب الرجوع إلى أهل الخبرة حتى يصل إلى الاطمئنان. ما هو في الواقع حجة للفقيه، هو هذا الاطمئنان نفسه الذي نادراً ما يحصل من رأي خبير واحد، بل يحتاج إلى اتفاق آراء أرباب الخبرة أو يلزم أن تؤكد قرائن أخرى رأي الخبير، كما أن أحياناً بسبب اختلاف آراء الخبراء، لا يحصل أي فائدة للفقيه.

على كل حال لمعرفة دقيقة لبعض موضوعات الأحكام، الفقيه لديه طريق صعب أمامه. يجب عليه بجمع القرائن والشواهد، أن يفتح طريقاً إلى الثقة والاطمئنان الذي يلعب فيه رأي الخبير، في هذه العملية، دور قرينة واحدة فقط إلى جانب القرائن الأخرى؛ وإذا لم يتمكن الفقيه من العثور على طريق إلى معرفة الموضوع، فلا بد أنه مضطر إلى الفتوى بناءً على الأصول العملية.

فقه معاصر: لماذا الفقهاء، في فقه الفن الذي هو مقولة متخصصة، لا يرجعون إلى آراء الخبراء؟ كمثال، صدق عناوين مثل «المفسدة»، «اللهو» و… لماذا لا يسلمونها إلى خبراء الفن؟ هل المشكلة في خبرة الفنانين (الصغرى) أم حجية قول الخبير في الفن (الكبرى)؟

علم الهدى: في كلا الناحيتين مشكلة. سواء في خبرة الفنانين وخبراء ساحة الفن، وسواء في حجية قول الخبير في فقه الفن. بالنسبة إلى الكبرى التي عرضتها أن قول الخبير في أي موضوع بما هو، ليس حجة. ما هو حجة للفقيه هو الاطمئنان الذي يحصل له من قول الخبير أو من أي طريق آخر. لكننا في الصغرى أيضاً لدينا كلام. الكلمات التي أشرتم إليها، مأخوذة في كلام الشارع ويجب في مقام الفهم والتفسير، حملها على المعنى الذي قصده الشارع في وقت إلقاء الكلام. لهذا الغرض، يلزم أن نجعل فهم العرف في عصر صدور النصوص الشرعية معياراً، والخبراء الذين تقصدونهم، غير معلوم أنهم لديهم طريق إلى معاني الكلمات في ذلك العصر.

لذا الخطاب الذي استخدمت فيه ألفاظ مثل «المفسدة» أو «اللهو» أو «اللعب» لا يمكن تفسيره فقهياً بناءً على المفهوم الذي يُفهم منها اليوم، بل يلزم معرفة مراد الشارع من هذه الكلمات وجعلها أساساً لاستنباط الحكم. في هذا الوسط، خبراء الفن في العصر اليوم، بالنسبة إلى هذه الكلمات وأن مراد الشارع من هذه الكلمات بالضبط ما هو، لا يمكنهم أن يكونوا مرجعية.

بالتعبير الفني، نحن في كثير من الألفاظ المأخوذة في الخطابات المتعلقة بمجال الفن، نواجه شبهة مفهومية. أن بالضبط مراد الشارع من «اللهو»، «لهو الحديث»، «اللغو» وأمثالها ما هو، بالنسبة إلى الجيل اليوم أو بالكلية ممزوج بالتردد أو في امتدادات المعنى وعرض وضيق دائرته متورط في الإبهام؛ لذا في هذا النوع من المواضيع المبهمة، الفقيه مضطر إلى الدخول بنفسه حتى ربما بتجميع القرائن ـ التي يمكن أن تكون واحدة منها، تصريحات الخبراء المعاصرين ـ يصل إلى نقطة اطمئنان.

فقه معاصر: بعض يعتقدون أن تسليم تشخيص عناوين مثل المفسدة، اللهو، اللعب، اللغو، الكذب (في المسرحيات) و… إلى فرد فرد من المكلفين، يسبب الفوضى والهرج والمرج في سياسات فقه الفن، هل تؤيدون هذا الرأي؟

علم الهدى: إذا كان المقصود من تشخيص العناوين المذكورة، تشخيص مفاهيمها التي بسبب الذي عرضته، الفقيه لا يمكنه أن يسلم العمل إلى غير نفسه، ولو كان هو خبيراً في المواضيع المتعلقة بهذه المجالات. تشخيص دائرة مفهومية هذه العناوين، عمل متخصص نظري يجب أن يتولاه الفقيه نفسه. بالطبع الفقيه في هذه الساحة، ربما محتاج إلى الرجوع إلى متخصصين مختلفين من بينهم اللغوي والفني والمؤرخ.

لكن إذا كان المقصود، تشخيص المصاديق بعد افتراض تبيين ووضوح مفهومها الذي بدون ترديد على عاتق المكلفين أنفسهم، الفقهاء منذ القدم قالوا إن تشخيص مصداقي موضوعات الأحكام على عاتق المكلف نفسه. الفقيه يبين موضوع الحكم إلى حد أقصى بشكل واضح وشفاف للمكلف؛ لكن أن مصداق هذا الموضوع ما هو، ليس على عاتق الفقيه، إلا في الحالات الخاصة التي وضع فيها تشخيص المصداق أيضاً على عاتق المجتهد، مثل تشخيص مصاديق الجرم في أمر القضاء الذي بحسب الرأي المشهور يجب أن يدخل المجتهد إليه ويحدد مصداق الجرم وبناءً عليه، يصدر الحكم القضائي.

فقه معاصر: لزيادة كفاءة فقه الفن، ما هي اقتراحاتكم؟

علم الهدى: فقه الفن في العصر المعاصر أصبح محل حاجة كبيرة؛ لأن الفن يلعب دوراً جدياً وبارزاً في حياة الإنسان اليوم. واقع الأمر أننا في فقه الفن نواجه تحديات جدية، سواء في قسم معرفة المفاهيم وسواء في قسم معرفة الأحكام. برأيي إذا أراد فقيه في فقه الفن أن يقوم بعمل مهم، يجب بالإضافة إلى الجهود العادية لعمليات الاستنباط، أن يدخل في ساحتين:

أولاً: يبذل جهداً مضاعفاً حتى يقوم بمراد الكلمات المتعلقة بمجال الفن التي مأخوذة في الخطابات الشرعية بدقة. هذا الأمر محتاج إلى دراسات عميقة في ساحة اللغة العربية القديمة وتاريخ عصر الجاهلية وصدر الإسلام. حتى أحياناً محتاج إلى الرجوع إلى بعض المصادر الأثرية والأنثروبولوجية حتى يتمكن من الحصول على معرفة شاملة بحياة وثقافة الناس في عصر الشارع المقدس. مثلاً عنوان التغني الذي في روايات عديدة مورد ذم وتحريم، بالضبط ناظر إلى أي عمل وبأي شروط كان؟ هل كل نوع من الغناء المصحوب بترجيع وإطراب، مصداق للغناء الذي في الأحاديث مورد مذمة؟

ثانياً: بالإضافة إلى ذلك، يجب على الفقيه أن يحصل على معرفة كافية من مصاديق الفن اليومية أيضاً ويفهمها جيداً؛ لأن ربما بعض العناوين الفنية المشار إليها في الأحاديث، حصلت علاقة تباين مع ما يُطرح كفن في العصر اليوم، كما يقول العظماء، الاهتمام بتأثير عنصري الزمان والمكان في استنباط الأحكام مهم، لأن المواضيع على طول الزمان وفي امتداد المكان تخضع للتغيير والتحول وهذا التغيير والتحول الموضوعي قد يؤدي إلى تغيير الحكم.

عاجلاً أعرض أن واحدة من الساحات التي يجب بشكل خاص أن يتم فحص عنصر الزمان والمكان بالنسبة إليها وتحولاتها على طول التاريخ ومناسبة مع الزمان والثقافة الزمنية، أن تُرصد بشكل عميق، هي الفن والمقولات المتعلقة بالفن. اجمالاً يجب أن نعلم أن مجتمع العرب قبل الإسلام وفي صدر الإسلام الذي يُدعى عصر الشارع، بالمقارنة مع المجتمعات الأخرى، قليل الفن بل خال من الفن يُعتبر. حياة البدو الصعبة والصحراوية والضيقات المعيشية والعناصر الثقافية الحاكمة على مجتمعات العرب في ذلك المقطع، إلى حد ما كان لها هذا الاقتضاء، لذا من الفنون الرائجة اليوم، إما أصلاً لم يكن أثر في مجتمع العرب عصر الشارع أو إن كان، بشكل سطحي ومبتذل وفي خدمة أهداف سوء.

مثلاً في مجموعة الفنون التجسيمية، فن الرسم تقريباً لم يكن له أي سابقة بين عرب ذلك العصر، النحت أيضاً كان في خدمة صنع الأصنام وإنتاج أدوات الشرك، لا أنه يُعتبر كفن يُؤخذ بعين الاعتبار، خلاف الإيرانيين والرومان القدماء الذين كانوا يتعاملون مع النحت والتصوير كفن زخرفي. حتى الخط الذي فيما بعد بين المسلمين ازدهر كفن، لم يكن له سابقة واضحة بين عرب عصر الشارع الذين كانوا عمدتاً أميين.

الفنون السمعية مثل الغناء والعزف الذي في أواخر عصر الأمويين وبعد ذلك في عصر العباسيين إلى حد ما ازدهر، عمدتاً بشكل مبتذل وفي خدمة مجالس العيش لأهل الفسق والفجور ومقارن مع محرمات مثل اختلاط الرجال والنساء والشرب أو مصحوب بنشر مفاهيم ومضامين غير أخلاقية وشركية.

لم يُرَ أثر واضح لفن العمارة في مجتمع العرب المعاصر للنصوص الشرعية. البناء الشهير والمعروف لديهم كان الكعبة التي كانت من حيث العمارة في غاية البساطة وخالية من أي ميزة فنية. كان طبيعياً أن في صدر الإسلام أيضاً، مع هذه الذهنية بأن الدنيا محل عبور وليست لها أهمية كبيرة، أن الفنون الزخرفية التي تلصق بها علامة الدنيوي والاهتمام بالدنيا، ذهبت إلى الهامش أكثر، مضافاً إلى أن بعض المجالات المرتبطة بالفن واجهت الردع والنهي من الشريعة.

بالطبع بعد الفتوحات الإسلامية وتحت تأثير الحضارات الكبيرة في ذلك الزمان، أي حضارة إيران القديمة وحضارة روم القديمة وكذلك تابعاً للاهتمام الذي كان لبعض الخلفاء العباسيين بالمقولة الفنية، تدريجياً دخلت فنون بأسلوب ساساني أو بيزنطي إلى المجتمعات الإسلامية التي في القرون الأولى، كانت تقليدية وهامشية واستغرقت قروناً حتى دخل المسلمون في كثير من المواضيع الفنية دخولاً جدياً وأصبحوا أصحاب أسلوب ومذهب وأزهرت مواهبهم الكامنة.

الذوق الفني لأهل العرب الجاهليين عمدتاً مصروف في الشعر والخطابة؛ وبالطبع أنهم في هذا المجال كانوا سرآمد الزمان؛ لكن هذه الساحة أيضاً مثل الساحات الأخرى، ملوثة بالابتذال. أدبهم كان في خدمة تقديم مضامين مبتذلة، مثل وصف العين والحاجب والأعضاء وأطوار امرأة جميلة الوجه، أو الفخر بالنسب والحسب والقبيلة، أو الرجز والكري للمنافسين والخصوم.

لذا هذا الاحتمال يُطرح بقوة أن كثيراً من العناوين المتعلقة بساحة الفن في النصوص الشرعية، غير قابلة للتطبيق على الوقائع الفنية اليوم، بهذا السبب أن أصلاً لم يكن لها سابقة في عصر النصوص؛ لذا برأيي أهم عمل يجب أن يتم في فقه الفن هو موضوع‌شناسي. الفقيه لكي يتمكن من إصدار فتاوى أدق لأهل عصره، يجب أن يعرف موضوعات مجال الفن في عصر الشارع وكذلك موضوعات الفنية في زمانه.

Source: External Source