ربما يحق لكثير من خبراء الفضاء الافتراضي أن يتضايقوا من تسمية هذا الفضاء بـ«الافتراضي». فلماذا نسمي فضاءً حضور البشر فيه حقيقي، وردود أفعالهم تجاه مواضيع حقيقية، بالافتراضي؟ أي جزء من هذا الفضاء مجاز وغير حقيقي لنسميه «فضاءً افتراضيًا»؟
ربما هذه التسمية بـ«الافتراضي» هي التي أغفلت المسؤولين والمشرعين والسياسيين عن تنظيم هذا الفضاء بجدية ودقة. وفي هذا السياق، ساهمت سرعة انتشار الفضاء الافتراضي وزيادة تأثيره اليومي في حياة البشر أيضًا في تفاقم المشكلة. على أي حال، سواء اعترفنا بشرعية هذا الفضاء أم لا، فإن حوكمة الفضاء السايبري اليوم ليست أقل أهمية من حوكمة الفضاء غير السايبري. فكم من مهن لا تربطها أي صلة بالعالم الخارجي، ووجودها وظهورها كله في الفضاء السايبري فقط، وكم من بشر يقضون وقتًا في الفضاء السايبري أكثر بكثير مما يخصصونه للتواصل والمعاشرة مع من حولهم.
حوكمة الفضاء الافتراضي مفهوم أوسع من مجرد التشريع ووضع العقوبات للسلوكيات المخالفة للقانون. تشمل الحوكمة التشريع والسياسات والتنفيذ والإشراف على القوانين. بل تشمل الحوكمة حتى الطرق التي توجه المستخدم نحو اتباع سياسة أو نهج معين دون سن قانون أو تحديد عقوبة لمخالفته. الحوكمة تعني كل الجهود التي تبذلها السلطة لتحقيق غاياتها وأهدافها.
في هذا السياق، يكتسب علم الفقه –كعلم يبين الواجبات والمحظورات العملية في حياة البشر– أهمية مضاعفة. هذا الأمر دفع إحدى المجلات الإلكترونية لمعهد دراسات الفقه المعاصر إلى تخصيص عددها لموضوع «فقه الحوكمة في الفضاء الافتراضي»؛ موضوع نادرًا ما طُرح في المحافل العلمية، وقليلًا ما استُكشفت أبعاده المتنوعة.
فقه الفضاء الافتراضي من المفاهيم السهلة الممتنعة؛ يبدو في البداية سهلًا لدرجة أن الجميع يظنون أنهم يعرفون معناه، ولكن عندما تتكشف أبعاده، يصبح صعبًا لدرجة أن تعريفه يشبه «الليفياثان». ماهية فقه الفضاء الافتراضي وأبعاده عنوان الفصل الأول من هذه المجلة. في هذا الفصل، حاولنا بالإضافة إلى تحديد معنى «فقه الفضاء الافتراضي»، استكشاف إمكانية إدراجه كباب فقهي مستقل، وكذلك تمييزه عن الأبواب الفقهية المشابهة مثل فقه الإعلام، فقه الاتصالات، فقه الفن، فقه الثقافة، وغيرها.
الفصل الثاني يناقش علاقة الفقه بالحوكمة في الفضاء الافتراضي؛ أي الدور والمكانة التي يمكن للفقه أن يلعبها في الحوكمة، وعلاقته بالعلوم الأخرى لتقديم نموذج مثالي للحوكمة الإسلامية على الفضاء الافتراضي.
الفصل التالي يتناول الجزء الأول من حوكمة الفضاء الافتراضي، أي السياسات الموجهة لهذا الفضاء. ربما يمكن القول إن السياسات هي الجزء الأهم في حوكمة الفضاء الافتراضي؛ لأن القوانين وطرق التنفيذ والإشراف عليها يجب أن تُرتّب وتُقيّم وفقًا للسياسات. دور الفقه في السياسات ربما لم يُطرح كثيرًا حتى الآن، وكان يُنظر إليه دائمًا كداعم لعلم الحقوق ومجال التشريع.
في الفصول من الرابع إلى السادس، تم تناول الأجزاء الثلاثة الأخرى لحوكمة الفضاء الافتراضي، وهي: التشريع، تنفيذ القوانين، والإشراف على تنفيذ السياسات والقوانين.
باختصار، كان الفضاء السايبري لا يزال يبدو موضوعًا حديث العهد ومستجدًا، حتى جاء الذكاء الاصطناعي وغيّر كل الحسابات وأساليب الحوكمة. من الواضح أن حوكمة فضاء كان يجب استكشافه يدويًا وواحدًا تلو الآخر، تختلف جذريًا عن حوكمة فضاء يقدم بـ«برمبت» واحد ليس فقط معلومات شاملة عن جميع الصفحات الافتراضية، بل تحليلها أيضًا. في الفصل السابع من هذه المجلة، سنناقش الأبعاد الجديدة التي أضافها الذكاء الاصطناعي إلى حوكمة الفضاء الافتراضي.
وبما أن حوكمة الفضاء الافتراضي ليست مجرد همّ لإيران أو حتى الدول الإسلامية، بل تشغل جميع الدول والسلطات، فإن الاطلاع على تجارب الدول الأخرى في حوكمة الفضاء الافتراضي قيّم أيضًا. الفصل الثامن من المجلة يسعى لإظهار نهج الدول الأخرى تجاه حوكمة الفضاء الافتراضي.
مستقبل فقه الحوكمة على الفضاء الافتراضي عنوان الفصل التاسع من هذه المجلة، الذي يحاول التنبؤ بمستقبل هذا الموضوع وإعداد علماء الفقه لمواجهته.
كما في المجلات الإلكترونية الأخرى للمعهد، خُصص الفصل الأخير لهذه المجلة لخلفية الموضوع. تشكل فهرس المقالات الفقهية والقانونية لحوكمة الفضاء الافتراضي، وببليوغرافيا حوكمة الفضاء الافتراضي، وتعريف المركز الوطني للفضاء الافتراضي كمركز رئيسي لحوكمة الفضاء الافتراضي في إيران، أقسام هذا الفصل.
من الواضح أن هذه المجلة، بهذا الحجم المختصر، لا تدّعي استكشاف جميع جوانب حوكمة الفضاء الافتراضي بشكل شامل، ولا تطمح إلى تقديم نموذج للحوكمة الإسلامية على الفضاء الافتراضي؛ بل هي جهد متواضع وخطوة أولى نحو تناول علاقة علم الفقه بحوكمة الفضاء السايبري. نأمل أن تكون هذه الكتابة خطوة قصيرة في سبيل تطوير وتعميق الفقه المعاصر، وأن توفر رضى مولى العالمين، الإمام الغائب عن الأنظار (عج)، آمين.
