الدكتورة بشرى سادات إمامي، أستاذة جامعية، في حوار حصري مع «فقه معاصر» تتناول:

الأصول العملية القضائية/8

في القانون المتعلق بحقوق السكان الأصليين في أستراليا، يتعين على المجموعات الأصلية أن تثبت أنها حافظت على قوانينها وعاداتها التقليدية منذ الاستعمار البريطاني حتى اليوم. وهذا أمر بالغ الصعوبة لأنه يغطي فترة زمنية طويلة ويتطلب أدلة كثيرة. لتسهيل هذه العملية، اقترحت لجنة إصلاح القانون الأسترالية (ALRC) استخدام «مبدأ افتراض الاستمرارية»؛ أي أنه إلا إذا ثبت العكس، يُفترض أن السكان الأصليين ظلوا ملتزمين دائماً بقوانينهم وعاداتهم التقليدية. هذا النهج يقلل من الحاجة إلى تقديم أدلة واسعة النطاق.

إشارة: الدكتورة بشرى سادات إمامي حصلت على دكتوراه في الحقوق الخاصة من جامعة مفيد، وهي منذ سنوات تعمل في البحث والتدريس الجامعي. إتقانها التام للغتين الإنجليزية والفرنسية، وحضورها العديد من المؤتمرات والندوات الدولية، جعلها على دراية واسعة بالنظم الحقوقية المختلفة في العالم. تحدثنا معها حول الاستصحاب وأبعاده والتحديات التي تواجه تطبيقه. وإلى جانب بيان التحديات في استخدام الاستصحاب في الفقه والقانون الإسلامي، ذكرت أمثلة على تطبيقه في دول ومذاهب حقوقية متنوعة. نص الحوار الحصري معها فيما يلي:

فقه معاصر: ما هي التحديات في تطبيق أصل الاستصحاب في فقه القضاء والجزاء؟ وكيف يمكن تجاوز هذه التحديات؟

إمامي: أصل الاستصحاب أحد الأصول العملية في علم أصول الفقه، يُستخدم عند الشك في الحدوث أو البقاء لاستنباط الحكم الشرعي. أدق وأوجز تعريف له هو تعريف الشيخ الأنصاري: «إبقاء ما كان». محل جريان الاستصحاب هو مراعاة الحالة السابقة؛ أي إذا كان وجود حكم أو موضوع في الزمن الماضي يقينياً، ثم شككنا في بقائه في الزمن اللاحق، فإننا نحكم ببقائه مراعاة للحالة السابقة. لم يتضح المقصود بـ«فقه القضاء والجزاء»، لكن الفقهاء والحقوقيين – في مسائل الحقوق الخاصة والجنائية – استندوا إلى هذا الأصل لإثبات حكم أو موضوع مشكوك سبق له يقين. استخدام الاستصحاب يواجه تحديات، منها:

  1. تعارض الاستصحاب مع قاعدة الدرء في الحقوق الجنائية قاعدة الدرء من القواعد المهمة في الفقه الجنائي، وبموجبها تُرفع العقوبة عند وجود شبهة. الفقهاء اختلفوا في شمولها: بعضهم خصّها بالحدود بالمعنى الخاص، وبعضهم عمّمها على القصاص والتعزير. المشرّع الإيراني في المادة ١٢٠ من قانون العقوبات ١٣٩٢هـ.ش قبل التعميم بتعبير «الجرم» (الذي يشمل الجرائم الحدية والتعزيرية والقصاصية. الاستصحاب وقاعدة الدرء يتعارضان في مواضع عديدة. فإذا اقتضى الاستصحاب إثبات حد، تعارض مع الدرء الذي يقتضي رفعه بسبب الشبهة. مثال: من ادعى جهلاً بحال عدّة امرأة فتزوجها وجامعها (شبهة موضوعية)، فاستصحاب عدم الزوجية يقتضي عقوبته، لكن قاعدة الدرء تحكم بعدم العقوبة. الفقهاء في بعض الحالات قضوا برفع العقوبة استناداً إلى الدرء، وفي حالات أخرى أثبتوها بالاستصحاب. ومنهم من قال إن الدرء دليل اجتهادي يقدم على الأصول العملية، أو إنه يقدم في الحدود والتعزيرات دون القصاص والديات.
  2. تعارضه مع أصول أخرى كأصل البراءة. فالأصل براءة الذمة وعدم الإجرام، لكن إذا كان لشخص سابقة إجرامية ثم شكك في ارتكاب جرم جديد، فاستصحاب خروجه من البراءة قد يتعارض مع أصل البراءة العام. وفي الفقه الاستصحاب مقدم، لكن في الأمور الجنائية يقتضي مراعاة حال المتهم عدم افتراض إجرامه حتى لو كان له سوابق.
  3. الشك في تفاصيل الحكم كمقدار العقوبة، حيث يصعب تطبيق الاستصحاب لأنه يحتاج إلى دليل قطعي.
  4. عدم التطابق مع الممارسات القضائية الحديثة فالقضاء المعاصر يعتمد على الأدلة الجديدة، والاستناد إلى الاستصحاب عند توفر أدلة أخرى يبدو تيسيرياً وغير منهجي.

حلول مقترحة:

  • إلزام الفقهاء والحقوقيين بالاجتهاد الجاد لتحصيل الأدلة والأمارات حتى لا يبقى مجال للأصول العملية التي لا توصل إلى الواقع قطعاً.
  • مراجعة مستمرة للفقه والقانون الجنائي بحيث تكون أيدي الفقهاء مليئة بالأدلة حديثة لا تحتاج إلى الاستصحاب وحده.
  • الاستصحاب في الفقه والتشريع الجنائي مشروع وضروري، لكن في تفسير القانون أو إصدار الحكم يحتاج كل حالة اجتهاداً خاصاً، والأصول العملية لا تكفي وحدها.

فقه معاصر: هل كثرة استخدام أصل الاستصحاب في فقه القضاء والجزاء أمر مطلوب، أم أن هذا الأصل وضع للاستعمال الاضطراري والمحدود فقط؟

إمامي: استخدام الاستصحاب – كغيره من الأصول الفقهية – يجب أن يكون بحذر وفي حدود معقولة. هو مخصص أساساً للحالات التي نشك في بقاء الحالة السابقة. لذا كثرة استخدامه دون قيد في الفقه الجنائي غير مطلوبة، ويبدو أنه وُضع للحالات الاضطرارية فقط، أي عند انعدام الدليل والأمارة تماماً. الاستصحاب – كونه أصلاً عملياً – لا يحل أبداً محل أدلة الإثبات (شهادة، إقرار، وثائق…) ولا الأمارات القانونية أو القضائية (أمارة اليد، الخبرة…). فلو صدرت الأحكام فقط بإبقاء اليقين السابق، قد يؤدي إلى أحكام ظالمة، بينما أهداف الفقه والقانون الجنائي الإصلاح والتعليم والإعادة إلى المجتمع، لا مجرد العقاب. لذلك يجب استخدام الاستصحاب فقط عندما لا يوجد أي دليل أو أمارة أخرى.

فقه معاصر: هل يمكن تطبيق أنواع غير متعارفة من الاستصحاب (كاستصحاب العدم الأزلي، الاستصحاب التعلیقي…) – على فرض الحجية في الأصول – في فقه القضاء والجزاء الذي يهدف أساساً إلى حل النزاع وإقناع الطرفين بالعدالة؟

إمامي: في فقه القضاء والجزاء – الذي يهدف أساساً إلى حل النزاع وإقناع الطرفين بالعدل – يمكن للاستصحاب كأصل عملي أن يؤثر في تحديد الحكم عند الشك، لكن الأنواع غير المتعارفة (استصحاب العدم الأزلي، التعلیقي…) – مع كثرة الخلاف في حجيتها – تحتاج إلى مزيد من الدقة والتأمل. ينبغي ترك تطبيقها – سواء في التشريع أو تفسير القانون أو إصدار الحكم – لاجتهاد الفقيه أو الحقوقي الذي يعرف تفاصيل القضية، حتى تتحقق العدالة والإنصاف. في النهاية، في مرحلة التشريع يجب ترك يد الفقهاء والحقوقيين مفتوحة للاستناد إلى الأدلة والأمارات والأصول حسب الحال، أما في مرحلة القضاء فكلما كثرت الأدلة والأمارات وقلّت الأصول، سهُل دفاع الطرفين وقلّ احتمال صدور أحكام تعسفية أو ظالمة.

فقه معاصر: في عبارة «المدعي من خالف الأصل والمنكر من وافق الأصل»، هل المقصود بالأصل الأصول الشرعية غير العقلائية كالاستصحاب، أم الأصول العقلائية؟

إمامي: الأصول العملية تنقسم من زاوية إلى ثلاثة أقسام:

  1. شرعية فقط (كالاستصحاب).
  2. عقلية فقط (كالتخيير).
  3. عقلية وشرعية معاً (كالبراءة والاحتياط).

أحد المعايير في تمييز المدعي والمنكر: «المدعي من قوله مخالف للأصل». أي المدعي من يدّعي وقوع شيء، فعليه الإثبات لأن الأصل في الأصول العقلائية هو الوضع الطبيعي العادي. يبدو أن «الأصل» هنا لا يقتصر على الأصول الشرعية أو العقلية فقط، بل يشمل كل أصول معتبَرة جارية حسب الحال: أصل عدمي (عدم، براءة) أو وجودي (استصحاب، اصالة الصحة، قاعدة اليد). بعض الفقهاء كمّلوا المعيار: «المدعي من يدّعي خلاف الأصل والأمارات». لكن هذا المعيار تعرض لإشكالات، منها تعارض الأصول والأمارات مع بعضها أحياناً، وعدم وجود أصل أو أمارة في كثير من القضايا. لذلك لجأ بعض الفقهاء والحقوقيين إلى «ظهور الحال» (الأمارة القضائية في القوانين الحديثة)، أو إلى العرف (كما قال صاحب الجواهر). في النتيجة: إثبات الحق بالدليل على عاتق المدعي، والمدعي من يخالف أصل العدم. أما في نظام المحاكمات الحالي فالمدعي غالباً من يقدم الدعوى (المدعي/الطالب)، وأحياناً تنقلب الدعوى إذا خالف المدعى عليه أمارة قانونية أو ظهوراً أو أصلاً عملياً، فينتقل عبء الإثبات إليه. لذلك في أغلب القضايا الحالية، بفضل وجود أمارات قانونية، لا يبقى مجال كبير للاستناد إلى الأصول لتحديد المدعي والمنكر.

فقه معاصر: في المذاهب الحقوقية الأخرى، ما هي الأصول التي تُستخدم بدلاً من الاستصحاب؟ وما مزايا الاستصحاب عليها؟

إمامي: كل نظام حقوقي يضع قواعد وفروضاً لتجنب الفراغ القانوني. في نظام الكومن لو (مثل بريطانيا) توجد «الفروض القانونية» (Presumptions) أي قبول أمر كواقع حتى يثبت العكس بدليل معتبر، تماماً كما تساعد الأصول والأمارات الفقهاء.

من أبرزها: Presumption of Continuity أو «أمارة الاستمرارية» وآثارها موجودة في قوانين دول كثيرة:

  • الهند: المادة ١١٤ من قانون الإثبات تسمح للمحكمة بفرض وقوع واقعة بناءً على سير الأمور الطبيعي.
  • أستراليا: تُستخدم في قضايا المرور والسكان الأصليين (كما ذكر في بداية الحوار).
  • الولايات المتحدة: يُفترض بقاء الحالة أو الحق السابق حتى يثبت العكس، ويُطبق في الدعاوى المدنية والجنائية (أمثلة من جورجيا، ومن قضية People v. Scandore 1957).
  • حقوق الدول: مبدأ «استمرارية بقاء الدولة» عندما تُحتل عسكرياً.
  • فرنسا: المادة ١٣١٥ من القانون المدني تنص على أن من يدّعي الوفاء بالتزام فعليه إثباته، أي استصحاب بقاء الالتزام حتى يثبت الخلاص منه.

النتيجة: رغم اختلاف الأسماء والتفاصيل، فالمفهوم العام لاستمرار الحالة السابقة موجود في معظم النظم الحقوقية العالمية. وبما أن وظيفة أصل الاستصحاب مطابقة تماماً لوظيفة هذه الفروض والأمارات، فلا تظهر ميزة واضحة أو تفوق للاستصحاب عليها. والاستصحاب – كما يُطبق في مسائل الأحوال الشخصية والعقود والمسؤولية المدنية وحتى الجنائية – له نظائر في تلك النظم تُستخدم في حال عدم وجود دليل، أو لتسهيل الإجراءات الحقوقية.

Source: External Source