مدير العلاقات الدولية في معهد الدراسات الفقهية المعاصرة، في حوار خاص مع موقع فقه معاصر، يطرح:

فقه العلاقات الدولية: ماهيته، أبعاده وتحدياته/20

إن ميدانًا مهمًا لا يزال مهملًا من ميادين الدبلوماسية الثقافية هو الدبلوماسية العلمائية أو الدبلوماسية الدينية. يجب أن نقول بحزن وألم إن أهل السنة والأزهر متقدمون علينا كثيرًا في الدبلوماسية العلمائية والدينية. وكذلك الحال في الأديان الأخرى؛ فالدبلوماسية المسيحية واليهودية والبوذية أكثر حضورًا وتكرارًا بكثير من الدبلوماسية الشيعية، بينما تمتلك المرجعية الشيعية طاقة فراملیة مهمة جدًا لم تُستثمر حتى الآن، ولم تتحقق السبل العملية والتنفيذية لتفعيل هذه الطاقة الجادة والأساسية.

إشارة: فقه العلاقات الدولية، بسبب حداثته، لم يتبلور بعد كباب فقهي مستقل. ومن الأعمال المهمة لتحويله إلى باب فقهي هو وضع عناوينه وشبكة مسائله. في هذا الصدد أجرينا حوارًا مع الدكتور عبد المجيد مبلغي، مدير الشؤون الدولية في معهد الدراسات الفقهية المعاصرة. وهو وإن كان فقيهًا ونال الدكتوراه في الفكر السياسي، فإنه منذ سنوات يهتم بدراسات العلاقات الدولية. كاتب المقالة المعنونة «الخطاب كمنهجية فعالة في دراسات العلاقات الدولية» تحدث في هذا الحوار عن الطرق المختلفة لتقسيم فقه العلاقات الدولية، وقدم اقتراحات لتحويل هذا الميدان الدراسي إلى باب فقهي مترابط ومنسجم. وفيما يلي نص الحوار الخاص الذي أجراه موقع فقه معاصر مع عضو الهيئة العلمية في معهد العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية:

فقه معاصر: ما هو فقه العلاقات الدولية؟ وما الفرق بينه وبين مفاهيم مشابهة مثل «فقه السياسة» و«فقه القانون الدولي» و«المدخل الدولي إلى الفقه»؟

مبلغي: يمكن تعريف فقه العلاقات الدولية بأنه دراسة واستقراء القواعد والأحكام الشرعية الإسلامية من منظور فقهي في مجال التفاعلات الدولية والعلاقات والروابط في الساحة الدولية. وبمعنى آخر، يتناول هذا الفرع من الفقه العلاقات بين الدول والمؤسسات، سواء كانت دولًا إسلامية أو غير إسلامية، وسواء كانت مؤسسات دولية ذات شرعية عالمية واسعة أو مؤسسات خاصة، وعلاقتها بالدول. كما يتناول في فقه العلاقات الدولية مسائل مثل العقود والمعاهدات الدولية والحرب والسلم وما إلى ذلك من منظور فقهي.

أما عن الفرق بين فقه العلاقات الدولية وبين المفاهيم الأخرى فأوضح للسادة الأعزاء ما يلي: أولًا: فقه العلاقات الدولية وفقه السياسة: نحن نعلم أن العلاقات الدولية تدخل – بمعنى ما – تحت السياسة، وبالتالي فإن فقه السياسة يشمل فقه العلاقات الدولية أيضًا. وبعبارة أخرى، إذا كنا في فقه السياسة ننظر إلى مجال أوسع يشمل الأحكام والقواعد المتعلقة بإدارة الشأن العام للبلاد والحقوق السياسية والقوانين السياسية والقواعد الأساسية وحقوق الأساس والحكومة والسياسات الداخلية والخارجية في إطار الأحكام الإسلامية، فإن فقه العلاقات الدولية – الذي هو جزء من فقه السياسة طبعًا – يركز اهتمامه الأساسي على التفاعلات عبر الحدود والعلاقات الخارجية وما يحدث في الساحة الدولية والفضاء الفراملي.

فقه معاصر: ما العلاقة بين فقه العلاقات الدولية وفقه القانون الدولي؟

مبلغي: في فقه القانون الدولي ندرس القانون الدولي من منظور الفقه الإسلامي – والمقصود هنا بالقانون الدولي هو معناه الحديث والمألوف، أي القانون الدولي كتخصص دراسي معروف ضمن علم الحقوق – ونسعى في فقه القانون الدولي إلى مناقشة هذه القواعد والضوابط والعلاقات والنتائج المترتبة على القانون الدولي في ساحة الفقه بطريقة فقهية. وبمعنى آخر، الشغل الشاغل هنا هو تطبيق المبادئ الإسلامية المتعلقة بالفقه على نظام القانون الدولي.

لكن فقه العلاقات الدولية لا يقتصر على مفاهيم القانون الدولي الحديث، بل يسعى لأن يأخذ بعين الاعتبار التفاعلات الدولية حتى خارج نطاق القانون الدولي الحديث، في ارتباط بطاقة الفقه الدولي واستعداده الذي يعبر عن الجوانب التاريخية والهوية الفقهية المستمرة.

فقه معاصر: ما الفرق بين «فقه العلاقات الدولية» و«المدخل الدولي إلى الفقه»؟

مبلغي: المقصود بالمدخل الدولي إلى الفقه هو أن ندرس المسائل الفقهية من منظور عالمي مع مراعاة الحاجات والتحديات الدولية، بينما فقه العلاقات الدولية يتجاوز المدخل الدولي إلى الفقه، ويركز أساسًا على العلاقات بين الدول وعلى قضية الأمة وعلاقة الأمة بالدولة والأمة والدولة القومية وبنية النظام العالمي، وعلى الجماعات في إطار القواعد الشرعية وما إلى ذلك. وبعبارة أخرى، في فقه العلاقات الدولية تُناقش التفاعلات الدولية التي تدخل تحت تخصص دراسات العلاقات الدولية المعروف من منظور علم الفقه.

فقه معاصر: ما هي الطرق الموجودة لتقسيم مباحث فقه العلاقات الدولية، وأيها أكثر فعالية؟

مبلغي: قبل أن أتناول بعض هذه التصنيفات أذكّر بأن هذه التصنيفات تكون نافعة إذا كانت جامعة ولا تعاني من إهمال جانب وإبراز جانب آخر. أرجو أن يكون ما أقدمه قريبًا من هذه الصفة ويساهم في هذا النقاش.

أحد التقسيمات هو التقسيم حسب طبيعة العلاقات الدولية، أي بتتبع ما يجري في العلاقات الدولية من منظور ماهوي. وفق هذا التقسيم يشمل فقه العلاقات الدولية الأقسام التالية:

  • علاقات الدول الإسلامية بالدول غير المسلمة، وهي تتداخل مع مفاهيم مثل دار الحرب ودار السلام، وتشمل مسائل مثل الحرب والسلم والجزية ووثيقة الأمان والمعاهدات.
  • علاقات الدول الإسلامية مع سائر الدول الأخرى، وتشمل التعاون مع الدول، وطرق حل النزاعات بين الدول الإسلامية والدول غير الإسلامية، وقضية وحدة الأمة وعلاقتها بالعالم خارج دائرة الأمة.
  • علاقات الدولة الإسلامية بالمنظمات الدولية، مثل التفاعل مع مؤسسات كالأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية والمنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان.

ميزة التقسيم حسب طبيعة العلاقات الدولية أنه ثنائي الأطراف، أي يأخذ بعين الاعتبار أطراف العلاقة، ومن هذا الاعتبار يتاح تقديم حلول فقهية مناسبة لطبيعة كل علاقة. لكنه قد يعاني من عيب عدم التمكن من مراعاة وحدة بعض المسائل المشتركة مثل القواعد العامة للحرب أو المعاهدات، مما يؤدي إلى نوع من التشتت، لأن هذا التقسيم يركز على العلاقة لا على الفعل.

نوع آخر من التقسيم هو التقسيم حسب الموضوعات الرئيسية في العلاقات الدولية، أي بدل النظر إلى طبيعة العلاقات ننظر إلى مواضيعها، مثل التقسيم حسب المعاهدات والعقود: أي معاهدات مشروعة وأيها غير مشروعة؟ ما شروطها اللازمة؟ ما الشروط المنقضة لها؟ ما معنى نقض العهد؟ وما إلى ذلك. وهنا يكون التركيز على المعاهدة والعقد. موضوع آخر هو الحرب والسلم، مثل شروط الجهاد، شروط الدفاع، قواعد الحرب، قواعد الأسرى والتبادل، وما إلى ذلك. وفي هذا التقسيم الثاني يمكن الخوض في موضوعات أكثر تفصيلًا مثل العلاقات الاقتصادية الدولية (التجارة، العقوبات، الضرائب في المجال الدولي، الملاحة البحرية الدولية). وموضوع آخر قابل للطرح ضمن التقسيم الثاني هو حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية، مثل حقوق الأقليات، الحرية الدينية، حقوق المرأة… إلخ. وموضوع آخر هو التفاعل مع المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي.

ميزة التقسيم الثاني أنه يتحدث مباشرة عن الموضوعات الدولية ويوفر إمكانية تقديم حلول فقهية مباشرة لها، أي أنه عملي وتطبيقي.

التقسيم الثالث هو التقسيم حسب الأحكام الشرعية، مثل الأحكام الأولية والثانوية؛ فالأحكام العامة الثابتة في العلاقات الدولية تُعتبر أحكامًا أولية، والأحكام التي تترتب على عناوين خاصة مثل المصلحة تُسمى أحكامًا ثانوية.

التقسيم الرابع هو التقسيم حسب وظائف وأهداف الدولة الإسلامية، مثل حفظ الأمن الوطني والعالمي، الدفاع والجهاد ومنع العدوان، إقامة العدل العالمي، نصرة المظلومين، مواجهة الظلم، تطوير التعاون الدولي، نشر القيم الإسلامية، توسيع دعوة الإسلام… إلخ. ميزة هذا التقسيم أنه يتيح لنا فهمًا مطابقًا لعلاقة الدولة الإسلامية بالشأن الدولي، أي قياس قدرة الدولة الإسلامية على التكيف السياسي مع العالم المعاصر والعلاقات الدولية والفراملية.

فقه معاصر: ما هي العناوين الرئيسية لفقه العلاقات الدولية؟

مبلغي: فقه العلاقات الدولية فرع من الفقه الإسلامي يركز على المسائل والأحكام الفقهية والشرعية بطريقة مرتبطة بالتفاعلات عبر الحدود والدولية، ويسعى لوضعها موضع البحث والتأمل. وله عناوين متنوعة أشير إلى أهمها:

  • المباني والأصول في فقه العلاقات الدولية: تعريف فقه العلاقات الدولية وماهيته، موقعه في نظام الفقه الإسلامي، المبادئ العامة الحاكمة على العلاقات الدولية من منظور الفقه الإسلامي، مبدأ العدل، مبدأ الكرامة الإنسانية، مبدأ الوفاء بالعهد، مبدأ السلم والتعايش، المفاهيم المفتاحية في المجال الدولي من منظور الفقه الإسلامي مثل الفرق بين دار الإسلام ودار الكفر ودار الحرب.
  • العلاقات السلمية: مثل المعاهدات العسكرية والثقافية والتجارية والسياسية، شروطها وحدودها والوفاء بالعهد فيها، حقوق الأقليات والتفاعل مع غير المسلمين.
  • الحرب والجهاد في العلاقات الدولية: الجهاد الابتدائي والدفاعي، أحكام وشروط مشروعية الحرب في الإسلام، معاملة أسرى الحرب، الحقوق والتكاليف في الحرب، القواعد الأخلاقية والفقهية في الحرب (مثل منع قتل المدنيين، وجوب حماية البيئة والبنى التحتية، جواز قطع الطاقة مثل الماء…)، أحكام الهدنة وأحكام انتهاء الحرب.
  • العلاقات الاقتصادية الدولية: أحكام التجارة الدولية مع الدول غير الإسلامية، مشروعية العقوبات الاقتصادية وشروطها، أحكام الجزية والخراج، دعم الحقوق المالية والملكية على المستوى الدولي، المبادئ الفقهية للتجارة العادلة.
  • حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية في العلاقات الدولية: موقع حقوق الإنسان في الفقه الإسلامي، مواجهة الظلم ونصرة المظلوم، رأي الإسلام في قضايا الهجرة واللجوء… إلخ.
  • دور الدولة الإسلامية وموقعها في النظام الدولي: توفير الأمن العالمي، نشر العدل ومكافحة الظلم، دعم الأمة الإسلامية والمظلومين، مواقف الفقه تجاه العضوية في المنظمات الدولية، أساليب التفاعل مع القوى الدولية، أحكام النظام القائم والهيكلية، الانتقال من النظام الحالي إلى نظام آخر.
  • القانون الدولي: موقع مبدأ السيادة والسلامة الإقليمية في الفقه الإسلامي، دراسة فقهية لقوانين الحرب والقانون الإنساني الدولي، دراسة فقهية لميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات الحقوقية المشتقة منه… إلخ.
  • القضايا البيئية في الساحة الدولية: التلوث عبر الحدود، الاحتباس الحراري، ترابط مجال البيئة، التزامات الدولة الإسلامية تجاه الأزمات البيئية العالمية.
  • التفاعلات الثقافية والعلمية الدولية: نقل المعرفة والتكنولوجيا، نشر الإسلام على المستوى الدولي، الدبلوماسية الثقافية.
  • التحديات والقضايا الجديدة في فقه العلاقات الدولية: مفهوم العولمة والتفاعل مع النظام العالمي، الدبلوماسية، النظام العالمي، الحروب الحديثة، الحرب السيبرانية، الحروب بالطائرات المسيرة، أسلحة الدمار الشامل، الهجرة، اللجوء، الحدود والسيادة في العالم الحديث.
  • تطبيق الفقه على القضايا المعاصرة: الفرق بين هذا المجال والمجال السابق أننا نستخدم في حل قضاياه مناهج جديدة مثل الفقه الديناميكي بدل المناهج التقليدية.

فقه معاصر: ما اقتراحاتكم لتطوير وتعميق ورفع مكانة فقه العلاقات الدولية؟

مبلغي: هذا الموضوع دقيق ومعقد ويحتاج إلى تأمل جاد، لكن أقدم هنا بعض النقاط: أولًا: يحتاج فقه العلاقات الدولية إلى إطار نظري شامل يمكن تحت مظلته صياغة الأحكام الفقهية للعلاقات الدولية. ولصياغة هذا الإطار يلزم تعريف وإعادة تعريف دقيق لمفاهيم مثل العدل والسلم والوفاء بالعهد والكرامة الإنسانية ودار الإسلام ودار الحرب. ثم يلزم مقارنة هذه المفاهيم بمفاهيم علم العلاقات الدولية بمنظور موضوعي وتطبيقي. بعدها يجب تصنيف مسائل فقه العلاقات الدولية كباب فقهي مثل باب التجارة، ووضع عناوينها لتحصل على قالب منسجم ومنضبط. الخطوة التالية هي توسيع البحوث متعددة التخصصات. فالعلاقات الدولية مجال متعدد التخصصات وديناميكي جدًا، يستمد من مجالات أخرى، مرتبط بالعلوم السياسية والدراسات التاريخية والتحليلات المقارنة والقوانين الدولية المعاصرة. ما لم يُعترف بهذه الطبيعة متعددة التخصصات لفقه العلاقات الدولية فلن يتقدم هذا الباب الفقهي. وبناء على هذه الطبيعة يجب أن يكون الباحثون في هذا الباب على دراية بهذه التخصصات، أو أن توجد مراكز دراسات تتولى هذه المجالات.

وبما أن العلاقات الدولية مرتبطة بالسيادة، فمن المناسب إنشاء لجان فقهية في البعثات الدبلوماسية للحكومة الإسلامية تقدم لها استشارات متخصصة. وهذا لا يعني عدم الحاجة إلى إنشاء هذا التخصص في الحوزات العلمية والمؤسسات العلمية غير الحكومية، فله فوائده أيضًا.

اقتراح آخر هو تدريب المتخصصين في فقه العلاقات الدولية من خلال إنشاء تخصصات دراسية وتعليم متعدد التخصصات، أو بتعبير شامل، خلق إمكانات تؤدي إلى الدبلوماسية الدينية. إن ميدانًا مهمًا لا يزال مهملًا من ميادين الدبلوماسية الثقافية هو الدبلوماسية العلمائية أو الدبلوماسية الدينية. يجب أن نقول بحزن وألم إن أهل السنة والأزهر متقدمون علينا كثيرًا في الدبلوماسية العلمائية والدينية. وكذلك في الأديان الأخرى؛ فالدبلوماسية المسيحية واليهودية والبوذية أكثر حضورًا بكثير من الدبلوماسية الشيعية، بينما تمتلك المرجعية الشيعية طاقة فراملیة مهمة جدًا لم تُستثمر، ولم تتحقق السبل العملية والتنفيذية لتفعيل هذه الطاقة الجادة والأساسية.

و طبعًا نشر الأعمال العلمية وتعميمها عمل مهم وجاد يجب أن يتم. نحن في هذا الباب الفقهي نعاني فعلًا من فقر الأدبيات. الكتب التي تناولت فقه العلاقات الدولية محدودة وقليلة، وبمعنى ما، أولية وبدائية.

Source: External Source