إشارة: آية الله السيد نور الدين شريعتمدار الجزائري، في نحو سبعين عاماً قضاها في الحوزة العلمية في الدراسة والتدريس والبحث، درّس وألّف في كثير من الموضوعات والأبواب الفقهية. أحد الموضوعات الفقهية المفضّلة لديه هو فقه العلاقات الدولية. تحدّثنا معه حول ماهية هذا الباب الفقهي الناشئ وأبعاده. يرى مؤلّف المقالة «فقه العلاقات الدولية» أنه يجب الالتفات إلى الفرق بين فقه العلاقات الدولية وفقه القانون الدولي. هذا الأستاذ والباحث القديم في الحوزة العلمية بقم يرى أيضاً أن فقه العلاقات الدولية لا يقتصر على العلاقات السياسية، بل يشمل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية أيضاً. تفصيل الحوار الخاص لـ«فقه معاصر» مع هذا الأستاذ في درس خارج الفقه والأصول في الحوزة العلمية بقم، كالتالي:
فقه معاصر: ما هو فقه العلاقات الدولية وما هي الموضوعات التي يتناولها؟
شريعتمدار: هنا أربعة عناوين نتحدّث عنها باختصار: العلاقات الدولية، والقانون الدولي، وفقه العلاقات الدولية، وفقه القانون الدولي.
العلاقات الدولية تتناول السلوكيات والأفعال التي تجري بين الدول والأمم، وقد تكون إيجابية ومفيدة وفي صالح الأمتين، أو سلبية وضارة ولها آثار تخريبية وفي ضرر كلا الأمتين.
القانون الدولي يتناول القوانين التي وضعتها كل دولة لصالحها وتتوقّع من الدول الأخرى الالتزام بها، سواء التزمت الدول الأخرى بها أم لا.
فقه العلاقات الدولية هو الأحكام الفقهية المتعلقة بالعلاقات بين الدول. وبما أن فقه الشيعة يتناول جميع المسائل والموضوعات التي يحتاجها الناس، فإن كل علاقة إيجابية أو سلبية بين الدول قد نُوقشت في فقه الشيعة؛ بل إن فقه الشيعة حدّد سلوك الأمم الأخرى من حيث الكفر والإسلام، حتى إنه عرّف الدول بدار الكفر ودار الإسلام. لكن زمان غيبة حضرت الحجّة هو زمان الهدنة والصلح وترك الحرب، والجهاد الابتدائي مشروط بحضور إمام العصر (عليه السلام). ففي زمان الغيبة لا يوجد جهاد ابتدائي. يمكن للدولة الإسلامية أن تتبع أهدافها الإسلامية باتخاذ علاقات سلمية واحترام متبادل مع الدول الأخرى، إلا في حال الهجوم، فحينئذ يأتي دور الجهاد الدفاعي. إذا وقع الجهاد الدفاعي، فلا شروط خاصة فيه بخلاف الجهاد الابتدائي الذي له شرط خاص. في الجهاد الدفاعي، كل من له قدرة يجب أن يدافع عن النظام الإسلامي. لا فرق بين رجل وامرأة وكبير وصغير، إلا من لا قدرة له فالتكليف ساقط عنه.
فقه القانون الدولي؛ هو الأحكام التي بُيّنت لحفظ استقلال الدولة وأمنها. في القرآن، ثمّة مباحث نفي الاستبداد ونفي السيطرة، مثل قوله تعالى: ﴿لَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾. يجب أن تكون الدولة الإسلامية مستقلة من كل جانب، سواء سياسي أو اجتماعي أو عسكري أو اقتصادي، ولا تكون تحت سيطرة الكفار وأعداء الدين.
فقه معاصر: هل العلاقات الدولية علم متعدّد التخصصات أم علم مستقل؟
شريعتمدار: العلاقات الدولية كانت بسيطة جداً ومحدودة، وتتناول موضوعات محدودة؛ لذا كانت مباحثها محدودة وقليلة؛ وبالتالي كان فقه الدولي في القديم متعدّد التخصصات ولم يكن مستقلاً؛ لكن في هذا العصر وفي زماننا الذي توسّعت فيه العلاقات بين الدول، بل تجاوزت العالم الحقيقي ودخلت الفضاء الافتراضي أيضاً؛ لذا يجب أن يتحوّل إلى علم مستقل، بل تخصّص متخصص. يجب أن يكون للداخلين في هذا التخصّص معلومات كاملة، وأن يتمكّنوا من بحث ودراسة جميع الموضوعات المطلوبة.
فقه معاصر: هل فقه العلاقات الدولية يقتصر على العلاقات بين الدول أم يناقش العلاقات بين المدن والأمم أيضاً؟
شريعتمدار: كما يتّضح من اسم هذا العنوان، هذا العلم لا يقتصر على العلاقات بين الدول، بل يتناول العلاقات بين الشعوب أيضاً؛ كما أن الله في القرآن يتناول العلاقات الدولية، وبل إنه في الكتاب العزيز وفي السنّة المباركة لا نقاش حول المملكة والدولة، بل النقاش حول الأمم: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾: إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا؛ لذا هذا الاختلاف ليس من جهة عرقية، بل من جهة التعارف. ثم يقول: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، ثم يقول: إن الله عليم خبير.
من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) أيضاً وردت روايات كثيرة في هذا المجال. فمثلاً، عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) نقل: «ألا إنّكم من آدم وآدم من تراب لا فخر لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي»؛ هذا الأمر مكافحة للتمييز العرقي الذي بدأ منذ سنوات في الأمم المتحضّرة ولم ينته بعد. أول مكافحة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت للتمييز العرقي، ورسالة ذلك الحضرة أنه لا فرق بين الأمم. رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) منذ البداية أسند مسؤولية كبيرة إلى غلام أسود، وكلما اعترضوا لماذا أرسلته إلى أعلى الكعبة ليؤذّن، لم يلتفت إليهم. هذا الأمر كان ثقيلاً جداً على الكفار. كان سلوك النبي (صلى الله عليه وآله) لإزالة التمييزات وتنظيم العلاقات بهذا الشكل.
فقه معاصر: هل فقه العلاقات الدولية يشمل الأبعاد الدينية أو الاقتصادية بين الدول أم يقتصر على العلاقات السياسية؟
شريعتمدار: كما يُستفاد من لفظ «العلاقات»، هذا العلم لا يقتصر على الأبعاد السياسية. بالطبع يمكن ملاحظة العلاقة السياسية من زاويتين؛ زاوية واحدة أن نعتبر العلاقة السياسية علاقة واحدة ونقول إنه لا يقتصر على العلاقات السياسية؛ لكن يجب الالتفات إلى أن لفظ «العلاقة» وإن كان مفرداً إلا أنه في الحقيقة جمع؛ لأن جميع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والدينية والعسكرية داخل في العلاقة السياسية؛ أي إن العلاقة السياسية هي التي تحدّد العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والدينية والعسكرية.
