إن تداخل الزمان والمكان في النصوص المتعلقة بفقه الفن خطير للغاية، فبعض القضايا اليوم تحصر فقه الفن في مثل النظر إلى غير المحرم

رئيس مركز الفقه المعاصر

اليوم تثار أسئلة عميقة في مجال الأفلام والسينما كأحد نماذج الفن التي تحتاج إلى دراسة خاصة، فالأسئلة اليوم لا تقتصر على هل يجوز إظهار وجه المرأة أو لباسها بما لا يتفق مع الضوابط الشرعية؟ وهل يجوز للرجل مثلاً أن يستخدم المكياج للمرأة وبالعكس؟ بل إن الأسئلة تتجاوز ذلك، ولابد من دراسة هذه التحديات في فقه الفن وفلسفة فقه الفن٠

ملاحظة: يبدو أن الفقه الناشئ شهد نمواً متزايداً في العقدين الماضيين، حتى أن علماء الفقه قد توصلوا تقريباً إلى اتفاق غير مكتوب على ضرورة الاستجابة لمشاكل الإنسانية اليوم من منظور الفقه. فمن أهم الأمور التي يجب أن تتوفر لتكوين فرع جديد من فروع الفقه والقدرة على حل مشكلاته هو إيجاد قواعد فقهية خاصة بذلك العلم، وقد تحدثنا عن القواعد الخاصة بفقه الفن مع آية الله السيد مجتبى نور مفيدي، أستاذ مادة الفقه الخارج والأصول في حوزة قم ومؤلف العديد من الكتب في الفقه المعاصر، إلا أن رئيس مؤسسة أبحاث الفقه المعاصر ركز أكثر على شرح الفن والتعريف الدقيق لفقه الفن، وبالطبع في النهاية عبّر عن بعض النقاط حول القواعد الخاصة بفقه الفن والنهج العام لهذه القواعد في حل مشاكل فقه الفن. إليكم تفاصيل الحوار مع هذا الأستاذ في البحث الخارج في حوزة قم العلمية؛

– ما هو فقه الفن وما الفرق بينه وبين الفقه المشابه مثل فقه الإعلام وفقه الاتصالات وفقه الفضاء الإلكتروني؟

السيد نور مفيدي: لكي نحدد فقه الفن يجب علينا أولاً أن نفهم الفن نفسه. إن تعريف فقه الفن واضح؛ لكن الفن مفهوم يختلف حوله الكثير من المفاهيم وهو من المفاهيم التي قد يكون من السهل تحديدها وبعض الاحيان من المستحيل تحديدها. فمنهم من حدد الفن بأنه حالة ووصف داخلي، أو معرفة وعلم، أو عمل يبدعه الإنسان، إلى من نظر في الفرق بين غرضه وعدم غرضه؛ أي أن هناك فروقات في تصنيف الفن من عدة أبعاد. فمنهم من يعتبر الفن معرفة. ومنهم من يعتبر الفن حالة نفسية. ومنهم من يعتبر الفن عملاً وممارسة يصدران عن الإنسان، لذلك فإن تحديد فقه الفن على أساس تعريفات مختلفة للفن سوف تكون له نتائج مختلفة. فإذا قلنا إن الفن نوع من المعرفة والفهم، فلابد من مناقشة هل فقه الفن كفقه يبين حكم تصرفات القائمين في مجالات مختلفة، وهل يستطيع أن يسعى إلى التعبيرعن حكم جانب من جوانب الإنسانية يدخل في نطاق المعرفة والفهم؟ وعليه فلابد من النظر هل يمكن أن يتخذ موقف من المعرفة ذاتها أم لا٠

أو مثلا إذا اعتبرنا الفن حالة داخلية، فهل يمكن أن يتخذ الفقه موقفا من الأفعال الخارجية أم أنه يتعلق بالأفعال الخارجية فقط؟ وعليه، ومع اختلاف تعريف الفن، يصعب تحديد فقه الفن الدقيق إلا إذا أخذنا مقياسا مشتركا لهذه التعريفات أو ركزنا على أحد عناصر الفن وأعماله واتفقنا عليه، ثم حددنا فقه الفن. فضلا عن ذلك فإن الفن الحديث يتميز بشكل أساسي عن الفن التقليدي والأصيل. ولا يمكن إنكار جوهر هذه القضية أن الفن رفيق للإنسان، والإنسان بطبيعته يحب الجمال، وقد أكد الله تعالى ذلك أيضًا: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ). لذلك إذا قلنا إن الفن رفيق للإنسان، وأن الإنسان يسعى دائمًا إلى ترك أعماله التي هي الأجمل؛ سواء في شكل شعر أو موسيقى أو بعض النثر أو رسم لوحات أو صنع منحوتات، فإننا لم نقل الكثير. وهذا أمر له تاريخ طويل جدًا وبالتالي فهو رفيق للإنسان. وحتى الآن، عندما يتحدث علماء الآثار عن البحث عن العصور القديمة، فليس من غير المعتاد أن يجدوا عملًا فنيًا إلى جانب اكتشاف عمل يتعلق بالإنسان والحياة البشرية في الماضي، مثل الجوانب الفنية في الملابس والأواني والحلي التي كانوا يستخدمونها٠

قد يقال إن الفن الحديث في العالم الحديث قد اختلف ووجد فيه فروعاً معينة ولوناً ونكهة معينة، فمثلاً أكد بعض علماء الغرب في وقت من الأوقات أن الفن هو في الأساس شيء خالٍ تماماً من الأغراض الدينية والأخلاقية، أي نظرية الفن من أجل الفن التي يعتقد بها البعض. وحين نضع هذه العبارة بجانب عبارة ابن سينا في الأشعث التي تقول إن فائدة الفن هي تحويل النفس الأنانية إلى نفس واثقة، وأن الفن هو شيء يوجه خيال الإنسان نحو الخيالات المقدسة ويخرج من الأوهام الحسية، يتبين لنا أن هناك مسافة كبيرة بين هاتين النظرتين٠

عند بعض المفكرين الإسلاميين نرى أكثر من هذا، أي توجهات معينة يمكن أن تكون دالة على صفة أو وصف للفن. والغرض من ذكر ذلك هو أننا في تعريف الفن نواجه مجموعة واسعة من الآراء والأفكار. وإذا أردنا أن نحدد فقه الفن على أساس هذه الاختلافات في الآراء، فلابد أن نحدد فقه الفن بالتوازي مع التعريفات التي وضعت للفن. ولكن بغض النظر عن هذه النقطة التي ذكرتها، وبغض النظر عما إذا كان الفن يعرف من خلال التعبير عن العناصر المفاهيمية أو من خلال ملحقاته وآثاره أو مزيج من الاثنين، ففي كل الأحوال، لكي نتمكن من تحديد موقف الفقه من هذا الصدد، فإننا نستند إلى حقيقة مفادها أن الفن هو مظهر من مظاهر الحالات الداخلية للإنسان التي تتجلى في صورة فعل٠

بالنظر إلى هذه المقدمات والاختلافات القائمة، إذا أردنا أن نعبر عن تعريف موجز على مستوى تفسير الاسم بحيث يتم التمييز بين هذا الفقه وغيره من الفقه الإضافي، فلابد أن نقول إن فقه الفن هو الحكم المتعلق بكل فعل من أفعال الفاعلين وأفعالهم التي تتعلق بطريقة ما بعمل خارق للعادة وجميل نسبيًا، وربما خارق للعادة فقط، لأن الفن في جوهره له هذا الجانب من الجمال ولو ادعى البعض بذلك، ولا يمكن إنكار هذه الخاصية، فالعمل الفني هو عمل يبدعه صاحبه في صورة كلام أو فعل، بأدوات أو بدونها، وهذا يختلف بطريقة ما عن كلام الناس وسلوكهم وأفعالهم الاعتيادية، فإذا قرأ قصيدة فهي بطبيعة الحال ذات جمال ولو كان الجمال درجات، فعزف الموسيقى أو صنع تماثيل وغير ذلك من فروع الفن التي ابتكرت في العالم الحديث كلها أيضا ذات نوع من الجمال٠

على كل حال نريد أن نعرف ما هي أحكام هذه الأعمال والأفعال في أبعادها المختلفة من وجهة نظر الفقه ومن وجهة نظر الشريعة التي تبين أحكام تصرفات المأمورين بها، وطبعاً بهذا التعريف يتميز فقه الفن تماماً عن غيره من الفقه الإضافي الذي ورد في السؤال، فإذا نظرنا إلى الفن بالمعنى العام فإنه قد يتجلى في لبس الثوب، أي إذا أظهر أحد ذوقاً خاصاً في لبس الثوب فلا نقول إنه أبدع عملاً فنياً، وفي فقه الإعلام في مجال الاتصالات أو في الفضاء الإلكتروني قد يظهر ذوقاً خاصاً ويستخدم هذه الأداة، وهذا هو الفن بالمعنى العام٠

فمثلاً قد يستخدم أحد في الإعلام ذوقاً خاصاً ليكون له تأثير أكبر سواء في الإعلان أو في نقل الأخبار أو تقديم كتاب وما شابه ذلك، مما يجذب بطبيعة الحال جمهوراً أكبر. إن المعلم الذي يدرس في الفصل قد يكون له أسلوب جذاب في التدريس، أو أسلوب متحدث قد يجذب المستمعين، لذلك يمكن إدراج الفن في إطار جميع جوانب الحياة الإنسانية، ولكن عندما نتحدث عن الفن، فإن الفن يكون بمعنى خاص ومصطلح الفن هو الذي يجعل الشخص الذي أبدع عملاً ما معروفًا بأنه خالق ذلك العمل الفني ويوصف بأنه فنان. لذلك فإن المعلم الذي يدرس الفصل بطريقة جذابة لا يسمى فنانًا. حتى لو قالوا إنه ينقل المادة فنيًا. لكنهم لا يسمونه فنانًا. لذلك فإن فقه الفن يختلف تمامًا عن بعض الفقه الإضافي المذكور في السؤال، ويمكن أن يكون الفن نفسه حاضرًا بشكل طبيعي في كل هذه الأنشطة والأفعال الإنسانية٠

بالطبع، يمكن أن يكون الفن بالمعنى العام موضوعًا للدراسات الفقهية أيضًا؛ ولكن في هذا السؤال، المقصود هو الفن بالمعنى الخاص. والمعنى العام الذي ذكر، وإن كان يستخدم في مجالات أخرى، لا يمكن أن يكون هو معنى السؤال٠

من المهم أن نلاحظ أن فقه الفن نفسه، وإن حاولت أن أقدم تعريفاً مختصراً له، إلا أنه يحتوي على كثير من الغموض من حيث الموضوع، وحتى ننتبه بشكل صحيح إلى فئة الفن كطبقة إضافية من طبقات الفقه، فلابد في الخطوة الأولى أن نحاول حل كثير من هذه الغموض الموجودة في هذه القضية٠

عندما نتحدث عن فقه الفن، فإن أول ما يخطر على بال الباحث في مجال الفقه هو البحث عن خلفيته في الكتب الفقهية، من حيث الموضوعات والمسائل والقضايا، لنرى الأدلة ونفحص مواضيع مثل الرسم والصور بروح أو بدون روح، وقضية الغناء والموسيقى والآلات الموسيقية. ثم نأتي إلى قضية الأداء، التي أثيرت في الماضي بشكل بسيط، في شكل مسائل مثل تشبه الرجل بالمرأة والعكس، أو قضية الاختلاط. ولكن فئة الفن أصبحت مختلفة تماما عن الماضي حتى في هذه المواضيع التي لها خلفية وسابقة. على سبيل المثال، تغيرت الموسيقى والاغاني حقا. وأصبحت الأسئلة التي تثار في هذه الحالات اليوم مختلفة تماما. أن نقتصر على نفس الأسئلة البسيطة التي أثيرت في الماضي من أجل تنظيم شبكة القضايا على أساس فقه الفن في أبعاد مختلفة ومحاولة الإجابة على قضايا جديدة منها ليس مثمرا جدا. ونوع الكتابات والقضايا التي تثار فيما يتعلق بالفن هي مع مقاربة لنفس الأسئلة البسيطة في الماضي، بينما إذا كان من المقرر القيام بعمل جدي في مجال فقه الفن، يبدو من الضروري أولا إزالة الغموض عن الفن وفروعه المختلفة، والتعرف على المواضيع وتعداد الأسئلة٠

اليوم تثار أسئلة عميقة في مجال الأفلام والسينما كأحد أمثلة الفن التي تتطلب فحصا خاصا. اليوم، لا تقتصر الأسئلة على ما إذا كان من الممكن إظهار وجه المرأة أو ملابسها بطريقة لا تتوافق مع المعايير الدينية أم لا؟ على سبيل المثال، هل يجوز للرجل أن يجمل إمرأة و كيف إذا كان العكس؟ الأسئلة تتجاوز هذا الحد، ويجب أن ندرس هذه التحديات في فقه الفن وفلسفة فقهه٠

– أرجو أن تعطينا بعض الأمثلة على الأسئلة والتحديات الجديدة في فقه الفن

السيد نور مفيدي: فن السينما له أهمية كبيرة، وحق هذا الفن يقتضي أنه عندما يعرض حياة الزوج والزوجة داخل المنزل، فمن الطبيعي ألا ترتدي المرأة حجاباً أمام الزوج أو أن تكون هناك علاقة عاطفية خاصة بينهما. أو لكي تكون المسرحية أو الفيلم أو القصة مؤثرة، علينا أن نعرض بعض جوانب الشخصية السلبية، وقد يكون بعضها غير قانوني أو غير أخلاقي. فهل يجوز مثل هذا الأمر من الناحية الفقهية؟

هذا السؤال يتجاوز الأسئلة البسيطة في الماضي. والسبب في ذكر هذا المثال هو أن القضايا التي يواجهها الفنانون تتجاوز الماضي بكثير وتحتاج إلى مزيد من الحوار والتفاهم والتفاهم المشترك على القضايا حتى تكون مثمرة. لا أقصد أن مسار الحياة البشرية يسير في أي اتجاه ويجب أن نتحرك سلبياً في نفس الاتجاه، لأنه في هذه الحالة، بعد فترة لن يبقى أثر للفقه والأحكام الدينية، “بل أقصد أنه يجب أن يكون هناك تفاهم وتواصل وأن تكون المواضيع المتخصصة معروفة بشكل كامل ولا ينبغي التعامل مع هذه المواضيع بنظرة بسيطة٠

في فقه الفن يجب الاهتمام بهذه القضايا٠

ما هي القواعد الخاصة في فقه الفن؟ رجاءا اذكر بعض القواعد؟

السيد نور مفيدي: في مجال القواعد الفقهية، نحن لسنا فارغي الأيدي في استخدام القواعد في مجال فقه الفن. واقتراحي هو أن أدلتنا وآياتنا ورواياتنا، إذا أعيد قراءتها ومراجعتها، ستساعدنا كثيرًا. وأشعر أحيانًا أن بعض الناس يصرون في خطبهم وكتاباتهم على أنه يجب علينا أن نذهب إلى القواعد فقط. نعم، يمكن استخدام القواعد في كثير من الحالات. قواعد مثل حظر إعطاء الصدقة على المعصية، أو قاعدة نفي الشارب، أو قاعدة الإلزام، وما شابه ذلك، هي قواعد فعّاليتها واضحة عند جميع فقهاء المذهب. ولكن لا ينبغي لنا أن نهمل العموميات والتطبيقات والأدلة المحددة التي تم الاستشهاد بها لتحريم بعض جوانب الفن٠

فمثلاً في مسألة الغناء أو الموسيقى أو النحت والرسم، خضع الشيخ المرحوم لبعض الآراء، مثل رأي المحقق السبزواري الذي يقول: ليس من المستبعد أن نطبقها على مسألة معينة كانت موجودة في ذلك الوقت. لذلك كانت هذه الأدلة تتعلق أكثر بالجوانب التي كانت مستخدمة في ذلك الوقت. أو في مسألة النحت، يقول المرحوم الإمام الخميني: إن تحريم هذه المسألة كان بسبب عبادة التماثيل في ذلك الوقت. واعتبار أن الأدلة صدرت في ذلك الوقت وفي ضوء تلك الظروف يمكن أن يكون مفيداً لنا كثيراً. لا أريد أن أقول إن كل سبب من أسباب تحريم عمل فني كان مرتبطاً بالضرورة بذلك الوقت؛ ولكن يجب علينا أن نراجع ونعيد قراءة الأدلة من هذا المنظور وننظر في القضايا في ظروف جديدة. ففي النهاية هذه القضايا لم تتغير، حتى وإن بدت كذلك. ولكنها وضعت في معادلات معقدة؛ لذلك فإن تدخل الزمان والمكان في الاجتهاد قضية مهمة جداً ينظر إليها البعض على مستوى سطحي. ولكن الأمر أعمق من هذا، ولكن في رأيي أن الأدلة التي بين أيدينا تستحق فعلا البحث، ويمكنها أن تساعدنا كثيرا مع وجود القواعد الفقهية٠

هذا الحوار جزء من المجلة الإلكترونية “أصول فقه الفن” والتي تم إنتاجه بالتعاون مع كلية فقه الفن وموقع شبكة الاجتهاد٠