إشارة: الحكم في المحاكم، في كثير من الحالات، يتم بناءً على الأصول العملية بسبب عدم وجود أدلة. هذا الأمر يضاعف أهمية الأصول العملية في فقه القضاء. حول ماهية وأبعاد الأصول العملية القضائية المتنوعة، تحدثنا مع الحجة الإسلام والمسلمين أكبر خادم الذاكرين، عضو هيئة التدريس في قسم الفقه والحقوق الجنائية بجامعة المصطفى. هو لا يرى فقه القضاء يملك أصولاً عملية خاصة تختلف عن الأصول العملية العامة في علم الفقه. في رأيه، الأدلة على حجية الأصول العملية تثبت حجيتها في فقه القضاء أيضاً. تفاصيل الحوار الخاص لفقه معاصر مع هذا الأستاذ في درس الخارج للفقه والأصول في الحوزة العلمية بقم، أمام نظركم:
فقه معاصر: ما هي الأصول العملية التي تُستخدم في فقه القضاء والجزاء؟ هل تختلف هذه الأصول العملية عن تلك التي تُناقش في علم الأصول؟
خادم الذاكرين: الأصول العملية التي تُناقش في علم أصول الفقه متساوية في جميع أبواب الفقه، ولا فرق بين فقه القضاء أو فقه الجزاء؛ بعبارة أخرى، هذه الأصول دليل للفقيه في الحالات التي لا يتوفر فيها دليل قطعي لاستنباط الحكم الشرعي. من أهم الأصول العملية يمكن ذكر أصل البراءة، أصل الاحتياط، أصل الاستصحاب، وأصل التأخير، والتي تُطبق في كلا مجالي فقه القضاء وفقه الجزاء وتكون أساساً لاتخاذ القرار.
أصل البراءة: يعبر هذا الأصل عن أنه في حال الشك في وجود تكليف، فالأصل عدم التكليف. في فقه القضاء، إذا كان هناك شك في تكليف أو مسؤولية شخص، فالأصل عدمه، إلا إذا كان هناك دليل على خلافه. في فقه الجزاء أيضاً، البراءة تعني أصل البراءة من التهمة، أي حتى يثبت جرم الفرد، لا يمكن اعتباره مجرماً.
أصل الاحتياط: خلافاً لأصل البراءة، يوجب أصل الاحتياط في الحالات التي يكون فيها شك في التكليف واحتمال وقوع خطأ أو ضرر جسيم، مراعاة جانب الاحتياط. يمكن استخدام هذا الأصل في فقه القضاء في مسائل مثل حقوق الناس والدقة في إصدار الأحكام. في فقه الجزاء، يعني الاحتياط في العقوبات، خاصة الحدود والقصاص، الامتناع عن تطبيق عقوبات شديدة في الحالات المشكوك فيها، واستخدام طرق التخفيف أو البدائل قدر الإمكان.
أصل الاستصحاب: يدل هذا الأصل على الحفاظ على الحالة السابقة حتى يثبت خلافها. على سبيل المثال، إذا كان شخص ما مالكاً لمال سابقاً وشككنا في استمرار ملكيته، فالأصل بقاء ملكيته إلا إذا ثبت خلاف ذلك. في فقه القضاء، يمكن أن يلعب الاستصحاب دوراً هاماً في الدعاوى الحقوقية وإثبات الادعاءات. في فقه الجزاء، إذا كان فرد ما معترفاً به بريئاً سابقاً ونشأ شك لاحقاً في إجرامه، فالأصل بقاء براءته إلا إذا قدم دليل قطعي على إجرامه.
أصل التأخير: يعبر هذا الأصل عن أنه في حال الشك في التكليف، يجب تأخيره حتى يأتي دليل قطعي على وجوده. في فقه القضاء، قد يُطبق هذا الأصل في الحالات التي يكون فيها تردد في صحة دعوى أو أدلة. في فقه الجزاء، يقتضي هذا الأصل أنه إذا كان هناك غموض في تحديد العقوبة أو تنفيذ الحكم، لا يجوز اتخاذ إجراء لإصدار أو تنفيذ الحكم دون دليل كافٍ.
فقه معاصر: هل تختلف الأصول العملية الفقهية عن الأصول العملية الحقوقية أم لها معنى واحد؟
خادم الذاكرين: إحدى المسائل الأساسية في الفقه والحقوق هي دراسة الأصول العملية ومدى تطابقها في هذين المجالين. يُطرح السؤال: هل تختلف الأصول العملية المستخدمة في الفقه عن تلك المستخدمة في الحقوق، أم تتبع معنى واحداً؟
يعتقد بعض الفقهاء والحقوقيين أن الأصول العملية في كلا المجالين لها معنى متساوٍ، لأن النظام الحقوقي في العديد من الدول الإسلامية، بما في ذلك الدول ذات الهيكل الحقوقي الإسلامي، نشأ مباشرة أو غير مباشرة من الفقه الإسلامي. بناءً على ذلك، أصول مثل البراءة، الاحتياط، التخيير، والاستصحاب التي تُطرح في الفقه، تُستخدم في الحقوق أيضاً وتكون أساساً لاتخاذ القرار في حالات عدم وجود دليل اجتهادي.
في المقابل، يعتقد بعض المفكرين أنه رغم وجود تشابهات بين الأصول العملية في الفقه والحقوق، إلا أن هناك اختلافات في طريقة التنفيذ، ونطاق التطبيق، وتأثيرها. في الحقوق، تكون الأصول العملية أكثر طابعاً تنفيذياً وعملياً، وفي كثير من الحالات، تحل القوانين واللوائح محل الأصول العملية، بينما في الفقه، تُستخدم هذه الأصول كأساس للاجتهاد واستنباط الأحكام في حالات الشك والتردد.
فقه معاصر: هل يتطلب توسيع الأصول العملية إلى الأمور القضائية دليلاً خاصاً، أم أن الأدلة نفسى حجية الأصول العملية كافية لحجيتها في فقه القضاء أيضاً؟
خادم الذاكرين: في الواقع، الأدلة نفسها التي تثبت حجية الأصول العملية تسري في الأمور القضائية أيضاً. تنقسم البراءة إلى قسمين: البراءة العقلية المبنية على قبح العقاب بلا بيان، والبراءة الشرعية المبنية على قاعدة «رفع ما لا يعلمون».
في الاستصحاب، تُطرح قاعدة «لا تنقض اليقين بالشك»، بينما أصل الاحتياط يُعتبر أصلاً عملياً عقلياً. على سبيل المثال، في الشك في المكلف به، يُطرح أصل التأخير، وفي الدوران بين المحذورين يسري أصل الاحتياط.
لذا، أدلة إثبات حجية الأصول العملية تسري في الفقه والحقوق، ولا فرق بين فقه القضاء أو فقه الجزاء. نتيجة لذلك، الأصول العلمية العامة المستخدمة تشمل الاستصحاب، البراءة (العقلية والشرعية)، التأخير (العقلي)، والاحتياط في حالات العلم الإجمالي.
فقه معاصر: هل لأبواب مثل فقه الجزاء، فقه المدني، فقه الحقوق الدولية، إلى جانب الأصول العملية المشتركة لفقه القضاء، أصول عملية خاصة بها؟
خادم الذاكرين: أصول عملية مثل البراءة، الاشتغال، التخيير، والاستصحاب تُطبق في جميع أبواب الفقه، لكن قد تشكل في بعض المجالات، بسبب طبيعتها والتزاماتها الخاصة، أصول عملية خاصة بذلك المجال.
على سبيل المثال، في فقه الجزاء بسبب أهمية حفظ حقوق المتهم وأصل البراءة، قد تُركز أصول عملية خاصة مثل «أصالة الاحتياط في الدماء» أو «أصالة البراءة في العقوبات» أكثر. كما في فقه المدني الذي يتعامل مع الحقوق والالتزامات الفردية، يلعب أصل الاستصحاب وأصل لزوم العقود دوراً بارزاً. في فقه الحقوق الدولية الذي يشمل التفاعلات بين الدول، قد تُدرس أصول مثل «أصل احترام المعاهدات» و«أصل حسن النية في الالتزامات الدولية» كأصول عملية خاصة.
لذا، رغم وجود أصول عملية مشتركة في جميع أبواب الفقه، إلا أن إمكانية وجود أصول عملية خاصة بناءً على متطلبات كل مجال غير مستبعدة. بالإضافة إلى ذلك، تلعب الإمارات والقرائن دوراً هاماً في تحديد الحكم الشرعي ورفع الشك في هذه المجالات. لذا، يمكن القول إن الفقه المعاصر بحاجة إلى دراسة أعمق ومقارنة للأصول العملية في أبوابه المختلفة.
فقه معاصر: هل الاستخدام الواسع للأصول العملية في فقه القضاء والجزاء أمر مرغوب ومتوافق مع القاعدة، أم يجب أن تُستخدم هذه الأصول في حالات محدودة وطارئة؟
خادم الذاكرين: الاستخدام الواسع للأصول العملية في فقه القضاء والجزاء يعتمد على الظروف والمواقف الخاصة. في الأساس، تُستخدم أصول عملية مثل «البراءة» أو «الاحتياط» عادةً عندما لا يكون هناك دليل قوي أو أدلة قطعية في المسألة؛ لذا، إذا كان في فقه القضاء والجزاء دليل شرعي معتبر لتحديد الحكم الشرعي، فلا يجب عادةً استخدام الأصول العملية. في الحالات التي لا يكون فيها الدليل الشرعي واضحاً أو الوصول إليه محدوداً، تدخل الأصول العملية حيز التنفيذ.
فقه القضاء والجزاء، بما أنه يتعلق بمسائل حساسة ودقيقة، يجب عادةً استخدام أصول شرعية دقيقة ومعتبرة، واستخدام الأصول العملية فقط في الحالات الطارئة التي لا يكون فيها دليل شرعي متاحاً. يجب أن يكون هذا النوع من الاستخدام محدوداً ودقيقاً لتجنب الأخطاء والمشكلات القانونية والفقهية؛ لذا، بشكل عام، الاستخدام الواسع للأصول العملية في هذا المجال غير مرغوب، ويجب اللجوء إليه فقط في الحالات التي توجد فيها ضرورة وإلحاح.
فقه معاصر: هل الأصل الأولي في فقه القضاء والجزاء هو العمل بناءً على الطريقة العقلائية في العقوبة واكتشاف الجرم، أم أن الأصل هو تأسيسية القواعد والقوانين القضائية والجزائية؟
خادم الذاكرين: في الرد على هذا السؤال، يجب القول إنه في فقه الجزاء والقضاء، إلى جانب القواعد التأسيسية التي وضعها الشارع المقدس، توجد أصول مبنية على الطريقة العقلائية في المجتمعات البشرية. في هذا السياق، نواجه تأسيس قواعد يمكن اعتبارها في إطار الروايات والفتاوى الشرعية. على سبيل المثال، إحدى أهم الروايات في هذا المجال هي حديث «البينة على المدعي واليمين على من أنكر»، الذي يؤكد أن عبء إثبات الجرم على المدعي، وإذا لم يتمكن المدعي من تقديم بينة كافية، يمكن للمتهم الدفاع فقط بالقسم. هذا الأصل من المنظور العقلائي يعني أن العقلاء يحتاجون إلى دليل مقبول لإثبات الدعوى، وفقط عند تقديم مثل هذا الدليل يتم إصدار الحكم.
لذا، يعمل العقلاء عندما يحصلون على اطمئنان كافٍ؛ لكن إذا لم تتمكن البينة المقدمة من توفير الاطمئنان اللازم، لا يمكن إصدار حكم بناءً عليها، وفي هذه الحالة تكون البينة حجة شرعية معتبرة فقط. هذا الموضوع مهم من المنظور الأصولي والعقلائي لأنه يساعد في عقلائية العملية القضائية ويمنع إصدار أحكام غير عادلة.
في بعض الحالات أيضاً، قام الشارع المقدس بتأسيس قواعد عقلائية. على سبيل المثال، قاعدة «درء الحدود بالشبهات» الموجودة في المصادر الفقهية، تعبر عن أنه في حال وجود شبهة في إثبات الجرم، يجب الامتناع عن تنفيذ الحدود. هذه القاعدة في الواقع تشير إلى أصل عقلائي «الدرء»، حيث يمتنع العقلاء في حال وجود شبهة عن تنفيذ العقوبة. أي إذا لم يكن هناك أي يقين أو اطمئنان بشأن وقوع الجرم، لا يمكن تطبيق العقوبة على الشخص.
بالإضافة إلى ذلك، يوجد أصل آخر في فقه الجزاء يُدعى «أصل العدم»، الذي يقضي بأنه حتى يثبت وقوع الجرم، فالأصل عدم العقوبة. في هذا الأصل، يُفترض أن الفرد بريء حتى يثبت خلاف ذلك. هذا النظر مبني على العقل والإنصاف بأنه لا يجوز معاقبة أحد دون دليل وإثبات الجرم.
بشكل عام، يمكن القول إن فقه الجزاء والقضاء في كثير من الحالات يعتمد على الأصول العقلائية، وقد أسس الشارع المقدس في كثير من الحالات هذه الأصول وأقرها؛ لكن لا يمكن وضع الأصل على التأسيسية أو الإمضائية.
