المدير السابق لمركز التعاون الدولي في معهد العلوم والثقافة الإسلامية، في حوار خاص مع موقع فقه معاصر:

فقه العلاقات الدولية: ماهيته، أبعاده وتحدياته/21

للوصول إلى فقه علاقات دولية فعّال، لا حاجة لتغيير المبادئ الفقهية الأساسية. ما هو مطلوب هو إعادة النظر في المقدمات التقليدية وإحداث تحول في المنهجية؛ بحيث يتمكن الفقه الإسلامي – مع الحفاظ على أسسه الثابتة – من الإجابة عن حاجات العالم المعاصر المتغيرة والمعقدة، ويؤدي دورًا فعّالاً ومؤثرًا في الساحة الدولية.

إشارة: الدكتور حسن عبدی‌پور، وإن كان عضو هيئة التدريس في معهد ثقافة ومعارف القرآن التابع لمعهد العلوم والثقافة الإسلامية، فإنه يعمل منذ سنوات في مجال العلاقات الدولية. إدارته الطويلة لمركز التعاون العلمي والدولي في هذا المعهد، إلى جانب حضوره المستمر في المؤتمرات والفعاليات العلمية الدولية المتنوعة، جعلته شخصية مطّلعة على ميادين فقه العلاقات الدولية. سألناه عن أسس ومقدمات فقه العلاقات الدولية. يرى أن فقه العلاقات الدولية لا يحتاج إلى تغيير في الأسس، لكن في مجال المقدمات والمناهج يلزم إجراء تغييرات جوهرية. وفيما يلي نص الحوار الخاص الذي أجراه موقع فقه معاصر مع نائب رئيس الشؤون الدولية في مؤسسة تبيان:

فقه معاصر: ما هو فقه العلاقات الدولية، وما هي مقتضياته؟

عبدی‌پور: فقه العلاقات الدولية هو مجموعة من القواعد والأصول الفقهية المستمدة من المصادر الإسلامية، ويهدف إلى تنظيم وتوجيه علاقات المسلمين مع الشعوب والدول الأخرى. ونظراً للتطورات الواسعة والمعقدة في العالم المعاصر في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية، وظهور فاعلين وقضايا جديدة، فإن المنهج التقليدي لم يعد يكفي للإجابة عن هذه الحاجات. في مثل هذه الظروف، يجب أن يتمتع فقه العلاقات الدولية بالدينامية والاجتهاد النشط حتى يتمكن من مواكبة التطورات اليومية والإجابة عن التحديات والحاجات الناشئة.

بالطبع، الدينامية في هذا المجال تعني المرونة العقلانية؛ أي أن يقوم المجتهدون والمسؤولون في الشؤون الدولية – بمعرفة دقيقة للأوضاع العالمية، واستفادة من علوم السياسة والاقتصاد والثقافة، وباجتهاد حيّ ومحدَّث – بتقديم حلول للقضايا الجديدة. لكن هذه المرونة لا ينبغي أن تؤدي إلى إضعاف المبادئ الأساسية مثل الاستقلال والعزة والهوية الدينية ونفي سيطرة الأجانب. التفاعل والاتصال مع الدول الأخرى جائز فقط إلى الحد الذي لا يؤدي إلى التبعية أو المساس بهذه المبادئ، ويحفظ مصالح المجتمع الإسلامي.

الإسلام دين عقلاني قائم على التفاعل الإيجابي مع الشعوب الأخرى. في عالم اليوم، ترك الارتباط والتفاعل ليس في مصلحة الأمة الإسلامية فحسب، بل يخالف المصالح الكبرى والسياسات الأساسية للإسلام. لذلك يجب أن تُنظَّم العلاقات الدولية في الفقه على أساس المصلحة ودفع المفسدة وحماية مصالح الأمة الإسلامية وصحتها. المشاركة الفعالة في المحافل الدولية، وإبرام العهود والاتفاقيات الدقيقة – ما دامت لا تمس المبادئ الإسلامية – أمر ضروري ومرغوب.

اليوم، مواضيع مثل حقوق الإنسان، والقضايا البيئية، وعولمة الاقتصاد، والعقوبات، والحرب الناعمة، والتهديدات السيبرانية، والغزو الثقافي الغربي، مجالات حاسمة ومؤثرة للمجتمع الإسلامي، ويجب أن يكون لفقه العلاقات الدولية موقف واضح واستراتيجي تجاهها. التعاون والتفاعل مع الدول الأخرى في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية – بشرط التوافق مع الموازين الشرعية والمصالح الإسلامية – يمكن أن يكون عامل تقدم وحصانة للمجتمع الإسلامي من التبعية والتخلف. وبالقدر نفسه، كل تهديد ضد الدين والأمن والثقافة الإسلامية يوجب على فقه العلاقات الدولية أن يدافع بحزم وذكاء عن المصالح الكبرى للأمة.

وبما أن كثيراً من القرارات في هذا المجال لها آثار كبرى وطويلة الأمد على حياة المسلمين، فإنه يلزم أن يكون نظام اتخاذ القرار موحداً وتحت قيادة الولي الديني والسياسي. تشخيص المصلحة وتحديد أسلوب التفاعل أو المواجهة مع الدول الأخرى يجب أن يتم بالتشاور مع النخب وفي إطار القيادة حتى يُحفظ وحدة وقوة المجتمع الإسلامي.

وبالتالي، فإن فقه العلاقات الدولية في عالم اليوم علم دينامي وفعّال، يعتمد على المبادئ الثابتة والاجتهاد المحدَّث وتحليل الواقعات العالمية، فيوفر أرضية لعزة وتقدم واستقلال المجتمع الإسلامي، ولا يسمح له بالوقوع في الضعف أو العزلة أو التبعية. كما أن القرارات الاستراتيجية والكبرى تُتخذ برأي القائد وعلى أساس المصالح العليا للأمة الإسلامية.

لذلك يسعى فقه العلاقات الدولية إلى تطبيق التعاليم الإسلامية في السياسة الخارجية والتفاعلات الدولية. التمكن من هذا المجال – إلى جانب الاجتهاد الفقهي – يتطلب الإحاطة بالأوضاع والنظريات السائدة في عالم اليوم. وعالم الإسلام – بسبب التبعيات والعلاقات المتعددة – مضطر للتفاعل والتعاون مع الشعوب الأخرى. الإمام الخميني (رحمه الله) أيضاً أكد كثيراً على ضرورة الارتباط بالعالم وتجنب العزلة. الغاية من فقه العلاقات الدولية هي توفير السلام والأمن والعدل لجميع البشر على أساس المبادئ والقيم الإسلامية، لا للمسلمين فقط. هذا العلم يسعى لتقديم حلول عقلانية وعزيزة لقضايا المجتمع، وفي الوقت نفسه ينتقد القوانين القائمة على السلطة المهيمنة، ويوجّه العلاقات الدولية وفق القيم الإلهية والإنسانية.

فقه معاصر: بشكل عام، ما هي أسس ومقدمات فقه العلاقات الدولية؟

عبدی‌پور: فقه العلاقات الدولية الإسلامي قائم على مجموعة من الأسس والمقدمات المستمدة من التعاليم القرآنية والسنة النبوية والتجربة التاريخية للإسلام. في النظرة الإسلامية، الإيمان بالتوحيد والسيادة المطلقة لله على العالم هو الأساس الرئيسي لتشكيل العلاقات بين الشعوب، ويضع دائماً مرجعية القيم والأحكام الإلهية في قمة جميع العلاقات والقرارات. وعلى هذا الأساس، مبدأ كرامة الإنسان – لا للمسلمين فقط، بل للبشرية جمعاء – هو أساس التعامل في الساحة الدولية، وكل سلوك أو قرار يجب أن يتم مراعاةً لحرمة وقيمة الإنسان الذاتية.

في الماضي كان فقه العلاقات الدولية يدور غالباً حول الفقه الفردي والتكاليف الشخصية، لأن أرضية تحقق دولة إسلامية شاملة وعولمة الإسلام لم تكن موجودة، أما اليوم فيقتضي – مع الحفاظ على طاقات الفقه الفردي – رفعه إلى مستوى السياسات الكبرى حتى يكون قادراً على الإجابة عن مقتضيات الحكم والعلاقات الدولية. وفي هذا الطريق يُستلهم من مبادئ أساسية مثل قاعدة نفي السبيل (نفي سيطرة الأجانب على المسلمين) وروايات مثل «الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه»، بحيث تكون هذه المبادئ قادرة على تقديم نموذج للسياسة الخارجية وتنظيم العلاقات مع الدول الأخرى.

في فقه العلاقات الدولية الإسلامي الأصالة للسلم والتعايش، وكل ظلم أو عدوان أو طلب هيمنة مرفوض. العقلانية ومصلحة الجماعة الإسلامية لها مكانة خاصة، وعليه فإن مصالح الأمة الإسلامية الكبرى مقدمة على المصالح الفردية أو الجماعية. كذلك الوفاء بالعهد والالتزام بالعقود من أهم مبادئ التفاعل مع الشعوب الأخرى، بشرط ألا تتعارض مع الأحكام الإسلامية.

ونظراً لتعقيد وتطورات العالم المعاصر، يجب أن يستفيد فقه العلاقات الدولية من اجتهاد دينامي وذكي حتى يتمكن من استنباط قواعد وأحكام جديدة تتناسب مع حاجات هذا العصر، ويحتل مكانة لائقة في التفاعلات العالمية. مبدأ الهداية والاهتمام بمصالح الأمة الإسلامية يجب أن يكون دائماً محور القرارات.

وبالتالي يمكن القول إن فقه العلاقات الدولية الإسلامي – معتمداً على مبادئ مثل التوحيد، وكرامة الإنسان، ونفي سيطرة الأجانب، وأصالة مصلحة الأمة، والوفاء بالعهد، ونصرة المظلومين، ومع الالتزام بالاجتهاد المحدَّث والنظرة الشاملة – يسعى لتنظيم سياسة وعلاقات الشعوب المسلمة في الساحة العالمية بحيث تكون من جهة متلائمة مع الهوية والقيم الإسلامية، ومن جهة أخرى مجيبة عن تحديات وتغيرات عالم اليوم.

فقه معاصر: للوصول إلى فقه علاقات دولية فعّال، هل هناك حاجة لتغيير في الأسس والمقدمات الفقهية؟

عبدی‌پور: مسألة فعالية الفقه الإسلامي في مجال العلاقات الدولية أصبحت اليوم واحدة من المواضيع المثيرة للجدل في الفكر الإسلامي، خاصة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. هذا السؤال يُطرح في الحقيقة هكذا: هل للوصول إلى فقه علاقات دولية فعّال يجب إحداث تغيير في الأسس والمقدمات الفقهية الأساسية، أم أن الإجابة عن الحاجات الجديدة ممكنة مع الحفاظ على تلك المبادئ نفسها؟

للإجابة على هذا السؤال أقدم عدة نقاط:

  1. ثبات المبادئ الفقهية وأهمية الاجتهاد المحدَّث أولاً يجب التأكيد على أن كثيراً من المبادئ والقواعد الفقهية الإسلامية – مثل وجوب الوفاء بالعهد، وقاعدة نفي السبيل، وقواعد نفي الضرر والعسر والحرج – متجذرة في المصادر الأصيلة والقطعية مثل القرآن والسنة، وتبقى دائماً أعمدة الفقه الإسلامي الثابتة. هذه المبادئ من الأركان غير القابلة للتغيير في الفقه. وفي الوقت نفسه، ما يضمن دينامية وفعالية الفقه في مواجهة القضايا الجديدة هو وجود مجتهدين يملكون نظرة دينامية ومحدَّثة ويجيبون عن القضايا الجديدة. الفقه الإسلامي استطاع عبر التاريخ – بهذا الاجتهاد نفسه – أن يواكب حاجات كل عصر، وأن يعيد صياغة قوالب القواعد بما يتناسب مع التطورات الاجتماعية والحضارية. لذلك لا ضرورة لتغيير الأسس، بل يجب إعادة النظر وتحسين طريقة فهم وتطبيق هذه المبادئ على الظروف الراهنة.
  2. نقد مقدمات الفقه التقليدي؛ ضرورة الانتقال من الفردمركزية إلى الحكوممركزية إحدى نقاط الضعف التاريخية للفقه أنه بُني غالباً على محور العلاقات الفردية والاجتماعية على المستوى المصغَّر، ولم تُدرس القضايا الكبرى للحكومة والعلاقات الدولية بصورة عميقة وشاملة. هذا المنهج يجعل إجابة الفقه التقليدي عن حاجات إدارة المجتمع والسياسة الخارجية تواجه تحديات جدية. في هذا السياق، أحد التغييرات اللازمة هو إعادة قراءة ونقد المقدمات السابقة في مجال العلاقات الدولية؛ بمعنى أن يتجاوز الفقه أفق الفردمركزية ويأخذ مقتضيات الحكم والسياسة الخارجية بعين الاعتبار. في هذا الطريق، تتقدم مصالح الأمة الإسلامية الكبرى على المصالح الفردية أو حتى الحكومية، ويصبح الاهتمام الخاص بالواقعات والتطورات العالمية ضرورياً.
  3. الاهتمام بالواقعات الجديدة وضرورة إعادة صياغة منهج تفسير القواعد عالم اليوم يواجه تعقيدات وتطورات سريعة في مجالات مختلفة مثل حقوق الإنسان الدولية، والاقتصاد، والبيئة، وعضوية الدول في المنظمات الدولية. الاكتفاء بتكرار القواعد التقليدية فقط لا يجيب عن القضايا المعاصرة؛ لذلك يلزم أن يعيد الفقه الإسلامي – مع الحفاظ على أسسه – النظر دائماً في طريقة تفسير وتطبيق هذه المبادئ على قضايا اليوم، ويأخذ الواقعات العالمية المتسارعة بعين الاعتبار كجزء من اجتهاده.
  4. التحول في المنهجية لا في أصل الأسس في النهاية، يجب التفريق بين الأسس غير القابلة للتغيير والمنهجية القابلة للتطوير. الإصلاح الجذري يجب أن يحدث في طريقة الفهم والاستنباط؛ أي أنه إلى جانب الاعتماد على المصادر التقليدية، يمكن لاستخدام العقلانية والتجربة والاهتمام بالمصلحة العامة للمجتمع الإسلامي أن يبقي الفقه مجيباً وفعّالاً. في هذا السياق، يأخذ الاجتهاد الدينامي، والبعد عن الجمود، وكذلك الدور الحاسم للقيادة الدينية ومكانة مصلحة الأمة الإسلامية في القرارات، أهمية خاصة.

للوصول إلى فقه علاقات دولية فعّال، لا حاجة لتغيير المبادئ الفقهية الأساسية. ما هو مطلوب هو إعادة النظر في المقدمات التقليدية وإحداث تحول في المنهجية؛ بحيث يتمكن الفقه الإسلامي – مع الحفاظ على أسسه الثابتة – من الإجابة عن حاجات العالم المعاصر المتغيرة والمعقدة، ويؤدي دورًا فعّالاً ومؤثرًا في الساحة الدولية.

في الواقع، التحدي الرئيسي يكمن في التحول في «منهج التنفيذ والاجتهاد»، لا في تغيير الأسس؛ وهذا المنهج نفسه هو الذي يحفظ أصالة وهوية الفقه الإسلامي، ويجعله في الوقت نفسه فعّالاً وقوياً على المستوى العالمي.

Source: External Source