كما كتب آية الله علي دوست مذكرته الختامية والنهائية حول هذا الموضوع، والتي أهداها إلى أحبائه٠
بسم الله الرحمن الرحيم
ملاحظات بخصوص مناظرتي مع الدكتور عبد الكريم سروش في يوم الاثنين، أكتوبر2024
ثلاثة مواقف من حديث الرواية
إن دفاع بعض الإمامية الإخباريين المتعصبين عن حديث الرواية، والذي أدى إلى صحة كل الأحاديث الموجودة، والهجوم الشديد من بعض المثقفين على هذا الحديث، يشبهان مقصين يبدو أن أحدهما لا يتعارض مع الآخر، ولكن إذا نظرت عن كثب، فإنهما ليسا فقط لا علاقة لهما ببعضهما البعض، بل إنهما يشحذان بعضهما البعض لقطع المستخدمين المعتدلين لهذا الحديث الجليل. حديث جليل تم تزويده بكنز معاناة آلاف الرواة الطاهرين وعلماء الحديث والفقهاء. و تراث ثمين يسد من ناحية فجوات التوجيه البشري ويلبي احتياجات طالبي التوجيه، ومن ناحية أخرى، فهو تراث حضاري غير ملموس لا ينبغي غزوه بحماقة والحكم عليه بغير عدل. وهذا التراث بعد انتهاء عصر المخالفين للحديث ومنع كتابة الحديث في عهد الخلفاء صدر أولاً واكتمل إلى عهد الصالحين عليهم السلام، ثم أعيد في عهد الأئمة بعد الصالحين إلى ما كان عليه من وصمة التزوير وصعوبة الخلاف، وكأن أئمة الشيعة من خلال تصميمهم لعقيدة “الترميم والتهذيب” حاولوا أن يوصلوا هذا التراث سليماً ومفيداً قدر الإمكان للأجيال القادمة٠
لا بأس أن يعلم السيد الدكتور سروش مستمعيه ما هو المعيار والمقياس لهم في اختيار الأحاديث الكثيرة التي كانوا مسؤولين عن نشرها وشرحها لسنوات في دورات نهج البلاغة وكيمياء السعادة والدين والقوة والسلوك الديني …؟
أو ما هو معيارهم في قبول روايات كتاب “المراقبات” للميرزا جواد آغا ملكي التبريزي، الذين اعتبروا معرفتهم به من منجزات شبابهم؟ حسنًا جدًا. يجب أن يوضح لمستمعيه على أي معايير ومقاييس قبل أحاديث مثل جهل النبي ودهشته من تلقيح بستان النخيل، حتى نتمكن أيضًا من استخدام نفس المعايير لاختيار الأحاديث الأخرى٠
هل لا تزال قصة كومة القمامة وكومة الرماد والشعر الأبيض على جسد البقرة السوداء صحيحة؟
أعتقد أن حرق التراث والثقافات المضادة يجب أن ينقسم إلى طريقين: حار (وأحمر) وناعم (وأبيض): أحدهما طريق الإسكندر الأكبر والمغول والغزنويين الذين أحرقوا كتب الحضارة بالنار الساخنة، والآخر هو الطريقة الدقيقة البيضاء ولكن المريرة والمدمرة التي سعت من خلال تقديم الأحاديث على أنها “رماد” إلى حرق هذا التراث غير المادي بهدوء. وغني عن القول أن حرق الثقافة الناعمة أكثر تدميراً وتضليلاً من حرق الثقافة الساخنة لأنه يخرج الجيل الشاب الباحث عن الهداية من أرض الأحاديث بـ “لا” كبيرة ويتركه حائراً في برية الجهل ورأس المال الضائع. ويبدو أن تصرفات البعض هي “لا” كبيرة و”صفر” لرأس المال الموروث من الماضي وصاعقة بلا مطر، ولا أكثر٠
إن ما حدث كان في إطار التراث الروائي الذي ورثناه من النبي وأئمة أهل البيت (عليهم السلام). وفيما يتعلق بالفقه والأصول، ينبغي أن يقال أيضاً: من الواضح أن بعض علماء الدين والعرفاء المسلمين كانوا على خلاف طويل الأمد مع جزء من الفقه. وفي هذا الجزء من الفقه الذي استاء منه علماء الدين والعرفاء، هناك أيضاً من هم حاضرون وقد تلطخت حد أقلامهم بدماء الفقهاء والمفكرين الحقيقيين مثل الشهيد الاول والشهيد الثاني والقاضي نور الله شوشتري. ورغم أن هذا الصراع قد تجاوز في بعض الأحيان عتبة التحيزات الدينية وضيق الأفق عبر التاريخ، إلا أنه متجذر في وجهات نظر فكرية، وبصفتي متعاطفًا مع الدكتور سروش، أطلب منه ألا يحول الاستياء المفهوم ولكن غير المبرر الذي يشعر به تجاه بعض الفقهاء والقانونيين في العصر المعاصر إلى استمرار غير مبرر لهذا الصراع التاريخي. ولا ينبغي لهم أن ينتقدوا “وجود مؤسسة الفقه” بكل ما قد يوجهونه من انتقادات إلى “الحالة القائمة لتلك المؤسسة”، بعبارات قاسية مثل “بيع الخل” و”بيع الدين” و”التفكير في الحياة” التي تفسد سوق النقاش، ولا ينبغي لهم أن يسخروا من بضائع المنافسين، وأن ينتبهوا دائمًا إلى هذه النقطة، وهي أن أشخاصًا عظماء مثل آية الله فيض الكاشاني، مع كل الانتقادات التي وجهوها إلى الحالة القائمة للفقه، اعتبروا أن جوهر هذه المؤسسة هو العلم الإلهي النبيل، أقدم العلوم، وأهم العلوم، ويعتقدون أن الأخلاق نفسها لا تؤدي إلى أي مكان دون الاعتماد على عمود الفقه. والمفكرون مثل الغزالي، مع كل الانتقادات التي وجهوها إلى الجزء الصارم وغير المتطور من الفقه، بدلاً من اتهام مؤسسة الفقه بالفساد، قدروا تعايش هذين العلمين على حدود مشتركة ومتداخلة أحيانًا.
أنت تعرف ذلك جيدا، أن الغزالي الذي تعتبر نفسك مدينًا له، مع أنه أدرج علم الفقه ضمن علوم الدنيا، وكما قرأت عنه مرات عديدة، فإن القلب خارج عن اختصاص الفقيه، كان خائفًا جدًا من إساءة استخدام تعبيراته وتحترق هذه المعرفة النبيلة في نار الإفراط والظلم. لذلك، أقسم بحياته أنه “ولعمري (الفقه) أيضًا للدين”.
كم هو بارع أن الغزالي أدرك ببصيرة أن البعض قد يستخدم تعبيراته كوسيلة لتشويه هذا العلم الثمين والتقليل من شأنه؛ “لذلك أود أن أذكر ثلاث فوائد لعلم الفقه لم أجدها في مصادركم المكتوبة والمسموعة:
الأولى أنه علم ديني أي منفعة النبوة
الثانية أنه لا يستغني عنه من سلك طريق الآخرة
الثالثة أن علم الفقه مجاور لعلم الآخرة
يا دكتور سروش! أد حق المعلم لطلابك وأخبر واكتب أن آية الله الفيض الكاشاني كتب في كتابك المحبوب المحمود “المحجة البيضاء”: إن العلم الذي استولى على ثلث القرآن حسب روايات أهل البيت (عليهم السلام) لا يمكن أن يكون علم الآخرة.
أما بخصوص أقوالك المطلقة في نقدك للفقهاء والحقوقيين والحوزات العلمية، فينبغي أن يقال: إذا قال أحد في جملته الأولى: “إن خريجي العلوم الإنسانية أناس مهملون”، ثم استنتج في جملته الثانية: “فجارنا الذي هو خريج العلوم الإنسانية هو أيضا مهمل”، فإن كلامه غير منطقي قطعا لأن استنتاجه وقع في مغالطة “إهمال الجدار”! أي أنه لم يثبت في جملته الأولى أن “كل الخريجين مهملون”، بل إن إهمال جدار القضية الأولى أوقعه وسامعيه في مثل هذا الخداع. “ومن المغالطات التي تقع في علم الفقه أيضاً أن نقول بإهمال مقدمة القضية: إن الفقهاء بعيدون عن الأخلاق في فقههم، ثم نستنتج أن الفقه الإمامي اليوم أيضاً بعيد عن الأخلاق، أو نقول بإهمال مقدمة القضية: إن الفقهاء قد انحرفوا عن العقل، ثم نستنتج أن الفقه الإمامي اليوم أيضاً بعيد عن العقل، وغير ذلك من الاستنتاجات التي تدخل كلها في مغالطة إهمال المقدمة. لأنه يجب أن نلاحظ دائماً أن الفقه ككائن حي يخطط ويسير في حركة بطيئة مستمرة داخل نفسه ويتحرك دائماً نحو الكمال، ولذلك فإن فقه القرن الرابع عشر قد نما حتى بالمقارنة بفقه القرن السابع عشر. لذلك فمن الضروري دائماً أن ننتبه بعناية إلى أي فقه نتحدث عنه.”
لقد كنت من جهة محط سخرية بعض المثقفين الذين يحللون أي حركة تطورية في علم الفقه بخوف وقلق، ومن جهة أخرى كنت محط اهتمام سلبي من المثقفين الذين لم يطلعوا بشكل كاف على حقيقة المعرفة الدينية. وقد حاولت بكتاباتي وتصريحاتي غير المفهومة أن أجعل كلا الفريقين أقرب إلى اعتقادي في علم الفقه وقدراته الثمينة في فك عقد العالم المعاصر المتشابكة، والتأكيد على أصالته وحداثته (موثوقيته وديناميكيته)، ولكن هذا الشك يطغى عليّ أحياناً، وهو أن مجموعة كبيرة من هاتين المجموعتين لا يمكن أن تفعل شيئاً سوى الدعاء والإحسان. ويمكن اكتشاف هذا الواقع المرير من بعض السلوكيات -التي لا يجدي الإشارة إليها-!
إن إثارة بعض المواضيع في بعض الأحيان من حيث التفاعل الهادف بين النص وسياقه يخلق معنى، والمسؤولية عن ذلك تقع على عاتق المتحدث. إن إثارة قضايا الدين والسلطة في وقت كانت داعش تنزف فيه وتستعبد فيه الأطفال والنساء، أثار للأسف في أذهان البعض فكرة أن دين الإسلام ونبيّه الكريم يدعمان داعش. وهذا بالطبع أمر غير متوقع من شخص مثل الدكتور سروش. ويبدو أن هذا هو السلوك الاستبدادي والنهج الصراعي للتراث السردي والفقهي.
إن النظرة التاريخية إلى علم الفقه تظهر أن علم الفقه علم ديناميكي يتمتع بطاقة وإمكانات لا يمكن حسابها، وكان حجمه يوماً بحجم “ريمسام” سالار الديلمي و”نهاية” الشيخ الطوسي، وفي اليوم التالي بحجم “تحرير” العلامة الحلي، وفي اليوم الأخير بحجم “مفتاح الكرامة” العاملي، وفي اليوم التالي بحجم كتاب “جواهر الكلام”. فلا ينبغي أن نعتبر اليوم الذي كان فيه عظيماً كنهاية الشيخ الطوسي قديماً، ولا اليوم الذي أصبح فيه عظيماً كجواهر الكلام ثقة. فهذه التغيرات دليل واضح على قدرة خفية كامنة في طبيعة هذا العلم، قدرة منتجة باقية، كلما واجهت الفقه مسألة جديدة، أثارت قضايا ورسائل جديدة. وإذا كانت هذه القدرة الخفية قد بقيت مخفية عن المثقفين الدينيين، فذلك لأنه لا يمكن الإمساك بها إلا بالتمعن والمرور عبر قوقعة المعرفة وإدراك جوهرها. فلا لوم على النبلاء الذين ينكرونها لعدم إيمانهم بها، ولكن السؤال لماذا يتكلمون ويتلون الملاحم فوق علمهم واهتمامهم؟!
أرجو من جميع المتابعين للمناظرة والحوار أن لا يأخذوا كلامي على محمل الجد بأي حال من الأحوال، وأن يفكروا فيه ثم يقبلوه أو يرفضوه، وأرجو من أعزائي في الحوزات العلمية والجامعات أن يفكروا فيما عرض عليكم في هذه المناظرات كلمة تلو الاخرة، وإذا كان لديكم أي نقد أو رأي أن تنقلوه إلينا بأي طريقة ممكنة[1] حتى يبقى باب المناقشة والتأمل مفتوحا.
والحمد لله رب العالمين.
قم – الحوزة، الاثنين، ٩ ديسمبر ٢٠٢٤
أبو القاسم علي دوست
[1] . وحتى تاريخ كتابة هذه المذكرة ظهرت مئات المذكرات والتسجيلات الصوتية والدروس والمحادثات المتعلقة بهذه المناظرة وما زالت مستمرة.