"الفقه والأخلاق"، "فقه الأخلاق"، أو "الفقه الأخلاقي"

في ملاحظة خاصة، ذكر حجة الإسلام والمسلمين مجتبى رحيمي؛

في الواقع، يسعى فقه الأخلاق إلى فتح باب في الفقه لدراسة الأحكام الشرعية لأفعال البشر. قد يكون هذا المجال تخصصًا فقهيًا، لكن هذا التخصص لا ينبغي أن يوحي بأننا أمام علم جديد ذي قواعد مختلفة أو أهداف مختلفة ومصادر مختلفة٠

لتوضيح المعنى الدقيق لفقه الأخلاق كباب فقهي، لا بد من توضيح اختلافه عن المفاهيم المشابهة له بشكل صحيح ودقيق؛  مفاهيم مثل “الفقه والأخلاق” و”الفقه الأخلاقي”. وقد أدى ظهور “الفقه الأخلاقي” مؤخرًا كفرع من فروع الفقه إلى نقص في المؤلفات في هذا المجال. في هذه المذكرة الخاصة، يحاول حجة الإسلام مجتبى رحيمي، مؤلف كتاب “من الفقه والأخلاق إلى الفقه الأخلاقي” قبل بضع سنوات، شرح “الفقه الأخلاقي” شرحًا صحيحًا وبيان اختلافه عن المفاهيم المشابهة٠

كما يتضح من الجمع بين “الفقه والأخلاق”، فقد افترض وجود اختلاف بين هذين العلمين؛ أي أنه ساد الاعتقاد بأن “الأخلاق” علم مستقل ومتميز عن الفقه، بمعنى أن هذين العلمين لهما مواضيع ومحمولات وأهداف ومصادر مختلفة، إلخ. يعتقد بعض معاصرينا أن موضوع الفقه هو أفعال الجسم وسلوكيات الإنسان الخارجية، أما موضوع الأخلاق فهو صفاته الروحية كالشجاعة والصدق، إلخ. ويرون أن محمول القضايا الفقهية هو القواعد الخمس (الواجبة، والمستحبة، والمباحة، والمكروهة، والمحرمة)، وأن محمول القضايا الأخلاقية هو الخير والشر، الضرورة واللاضرورة، والصواب والخطأ. وفيما يتعلق بأهداف هذين العلمين، يعتقدون أيضًا أن غاية الفقه هو اجتناب العقوبة الإلهية وإيجاد الأعذار، أما غاية الأخلاق فهي بلوغ الكمال الإنساني٠

بالطبع، قبل الخوض في هذا النقاش، يجب أن نتذكر أن هذه السطور ليست لوصف ما حدث حتى الآن، بل نريد أن نعرف كيف ينبغي أن يكون. وقد يعتقد عالمٌ عبر التاريخ بفصلهما، لكن تصوراتنا للكتاب والسنة والعقل تخالف اعتقاده٠

بناءً على هذا التوضيح، نقول إن التمييز المذكور بين الفقه والأخلاق لا يستند إلى دليل يُذكر من الكتاب والسنة والعقل، بل يتعارض مع الأصول التي أقرها الفقهاء وأقوالهم. وبالطبع، لا يسعنا الخوض في تفاصيل هذه الأمور باختصار. لذلك، سنشير باختصار إلى أجزاء مما كتبناه في كتاب من الفقه والأخلاق إلى فقه الأخلاق٠

أولاً: يعتقد علماء الشيعة المشهورون بتبعية الشرائع الإلهية المطلقة للمصالح والمفاسد، وما يُسمى بالخير والشر. فكتب الشهيد الأول في هذا الصدد ما يلي؛

“لما ثبت في علم الكلام أن أفعال الله تعالى مسببة بمقاصد، وأنه يستحيل أن تكون هذه المقاصد شريرة، كما يستحيل أن تعود إلى الله، ثبت أنها تعود إلى المكلَّف. وهذه المقاصد إما جلب منفعة للمكلَّف، أو دفع مضرّة عنه، وكلٌّ منهما إما متعلق بالدنيا أو بالآخرة، فلا تخلو الشرائع من أحدهما.”١

لهذه القاعدة شروط، سنناقش أحدها في سياق الحديث؛

المقصود من هذه القاعدة أن المصلحة المفسدة هي سبب الحكم. وعليه، فإذا تيقّنّا من المصلحة والمفسدة، صدر الحكم الشرعي تبعًا لها. فهل يجوز إنكار المصلحة في التواضع والكرم وعزّة النفس والتضحية وما شابهها؟ أم يجوز تجاهل المفسدة العظيمة في البخل والحسد وذلّ النفس وما شابهها؟ إن مصلحة هذه الأمور وضررها جليّان وخطير، بحيث يحتاج إنكارها إلى أسباب كثيرة لا إلى أدلة. ولكن كيف إذا كان الصيام مضرًا بصحّة البدن، نحكم بجوازه أو حرمته، بينما لا نستطيع الحكم على الكبر والبخل والحسد وذلّ النفس وما شابهها، وهي أهمّ بكثير من كثير من الأحكام الشرعية؟

بهذا المعنى، إذا كانت صفة داخلية لها فائدة محددة لشخص ما، فإن الالتزام بها يكون إما مستحسنًا أو إلزاميًا؛ لذلك، يجب أن نسعى جاهدين، ومن خلال تصحيح أفكارنا وسلوكياتنا اللازمة لظهور تلك الصفة، يجب أن نخلق روحنا فيها. فهناك أيضًا صفة يوجد فيها فساد محدد للشخص؛ هنا أيضًا، يجب أن نزيلها من أنفسنا من خلال تصحيح أفكارنا وأداء الأفعال. لذا نؤكد أن الحكم ينتمي إلى الصفة الداخلية نفسها؛ بمجرد أن نتمكن من تخيل الإرادة الحرة للشخص فيما يتعلق بالأفعال الخارجية والداخلية، فمن السهل أيضًا تخيل الحكم الديني لها. ومن الواضح أن السلوكيات والخصائص الداخلية تحت سيطرتنا؛ أي أنه يمكننا خلق فضيلة أخلاقية في أنفسنا من خلال القيام بسلسلة من الأشياء، أو إذا كانت لدينا وراثيًا، فيمكننا تقويتها، أو يمكننا إزالة رذيلة من أنفسنا أو إضعافها. تخيل أن الشخص يولد بخيلًا وراثيًا؛  يجب على هذا الإنسان أن يسعى جاهدًا لإخراجه من نفسه، وفي ذلك عليه أن يفكر في عواقب البخل في الدنيا والآخرة، وأن يُلزم نفسه بأداء التزاماته المالية، مما يؤدي في النهاية إلى زوال البخل من نفسه٠

ثانيًا: لا فرق في الآيات والروايات بين السلوكيات الظاهرة والباطنة، أي أن هناك ألفاظًا متقاربة وردت في حكم هذين النوعين من الأفعال. فعلى سبيل المثال، انتبه إلى العبارات الواردة في أحاديثنا الدالة على حرمة الكبر٠

لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر [٢]. (وكذلك القول في القاتل والسكير والنمام). لا يدخل الجنة سافك الدم، ولا شارب الخمر، ولا مشاء بنمیم[٣]٠

إياكم والعظمة والكبر، فإن الكبر رداء الله عز وجل. فمن نازع الله رداءه خصمه  الله وأذله يوم القيامة [٤

وكذلك من لم ينصر أخاه المؤمن، فمن أذل مؤمنًا وهو يقدر على ينصره أذله الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق

ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك جبار، ومقل مختال. (لاحظ أن في هذه الرواية لغةً تُذم الزنا والطغيان والكبر٠

لا يكلمهم الله، بل لاينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك جائر، وفقير متكبر.  [٥] (ستلاحظ أن هذه الرواية استخدمت نفس اللغة لتحريم الزنا والطغيان والكبر

وإضافةً إلى ذلك (أي استخدام نفس اللغة للتعبير عن قواعد السلوك الظاهري والباطني)، من أدلة الأديان السماوية أن كمال الإنسان وسعادته يكمنان في قرب الله، وفي نيل رحمته الواسعة في الجنة، والنجاة من نار غضبه، وأن سبيل بلوغ هذا الكمال ليس إلا الإيمان والعمل الصالح، أي: “العبودية”. ومن الآيات والروايات يتضح جليًا أن العبودية تتحقق عندما يُنظم العبد جميع تصرفاته الإرادية وفقًا لإرادة سيده ومشيئته، سواءً أكانت تلك التصرفات ظاهرية أم باطنية. (وقد ذكرنا في الكتاب المذكور أمثلة كثيرة على هذه المطالبات، وهي بالطبع غير خفية، ويمكنكم الرجوع إليها لمزيد من الدراسة٠

ثالثًا: إن التمييز بين الفقه والأخلاق لا يتفق مع أقوال الفقهاء. يقول الشهيد الأول في تعريفه للفقه؛

العلم بالأحكام الشرعية العملية وأدلتها التفصيلية لنيل سعادة الآخرة.[٦

وقد اهتم الشيخ الحر العاملي في بعض إجازاته بالسيادة الدنيوية بالإضافة إلى سعادة الآخرة، فقال في تعريفه للفقه؛

“هو العلم بالأحكام الشرعية، وهو الوسيلة لنيل السيادة الدنيوية والسعادة في الآخرة.”[٧

وإن كون علم الفقه مسؤولًا عن بيان الأحكام الشرعية العملية، ورسالته السيادة الدنيوية والسعادة في الآخرة، أمرٌ متفق عليه بين فقهاء الشيعة.  يقول العلامة الحلي في شرحه لفوائد علم الفقه؛

“فائدته: تحقيق سعادة الآخرة، وتعليم العامة نظام المعيشة في دنياهم.” ٨]

من الواضح أن سعادة الآخرة هي النجاة من النار ودخول الجنة وبلوغ الدرجات العليا والكمالات فيها والرضا الإلهي. ولكن لا أدري كيف زعم البعض أن غاية علم الفقه هي النجاة من العذاب، وأن بلوغ الكمالات الإنسانية من اختصاص علم الأخلاق؟

من النقاط المهمة في هذه العبارات والأفعال الفقهية الشيعية، والتي يجب بيانها، أن الفقهاء يُعرّفون الفقه بأنه “علم الأحكام الشرعية…”، ومن جهة أخرى، يُعرّفون الحكم الشرعي بأنه “القول الشرعي المتعلق بأفعال المكلفين”. وهذا يعني أن جميع أفعال الإنسان الاختيارية هي محل اجتهاد، سواء أكانت ظاهرية أم باطنية.  وفي جميع أنحاء الفقه، نرى أيضًا أن الفقهاء قد طبقوا الأحكام الدينية مثل الواجب والحرام، والمستحب والمكروه على الأفعال الظاهرة مثل الحب والبغض، والنفاق والإخلاص، والكبر والتواضع. (وقد وردت أقوال كثيرة من الفقهاء في الكتاب المذكور). فعلى سبيل المثال، أنكر السبزواري تحريم الحسد حتى لو لم يُصرّح به.[٩] كما اعتبر السيد عبد الأعلى الرياء حراما تكليفيا، وفي هذا الحكم، استشهد بالإجماع بالإضافة إلى الكتاب والسنة.[١٠] كما أن مؤلف كتاب الجواهر من بين الفقهاء الذين أكدوا على تحريم العجب.[١١

مع وضع هذا في الاعتبار، فإن استبعاد الاجتهاد من نطاق الفقه هو عمل غير مبدئي وغير علمي؛ لأن سلوكيات القلب تدخل أيضًا في نطاق الفقه، وعلى الفقيه، بنفس آلية دراسة فروع الفقه الأخرى، أن يدرس القضايا الأخلاقية ويبيّن أحكامها الشرعية، وكيفية غرس الأخلاق الحميدة، وسبل التخلص من الرذائل. ومن هنا جاء مصطلح “الفقه الأخلاقي”. لذا يسعى الفقه الأخلاقي في الواقع إلى فتح باب في الفقه لدراسة الأحكام الشرعية لأفعال البشر. وقد يكون هذا مجالًا فقهيًا متخصصًا، لكن هذا التخصص لا ينبغي أن يوحي بأننا نتعامل مع علم جديد ذي معايير أو أهداف مختلفة ومصادر مختلفة٠

الفقه الأخلاقي

يشبه “الفقه الأخلاقي”، أي أننا نضفي صبغة أخلاقية على الفقه ككل. بمعنى آخر، القضايا الأخلاقية بمثابة “قواعد فقهية” تؤثر على الفقه ككل. فعلى سبيل المثال، قاعدة “لا حرج” أو “لا ضرر” هي قاعدة فقهية وهي الخط الأحمر لجميع استنتاجات الفقه؛ أي أنه لا ينبغي للفقه أن يصل إلى حكم ضار في اجتهاده. وتوجد نفس العلاقة بين القضايا الأخلاقية وفروع الفقه الأخرى، ولا ينبغي للفقه أن يصدر فتوى تتعارض مع المعايير الأخلاقية. إذا انتبه شخص ما إلى هذه المسألة، فلا يمكنه إصدار فتوى بأن “أي متعة جنسية باستثناء الجماع مسموح بها للفتيات القاصرات”؛ فمن الواضح أن هذه الفتوى تفسد أخلاقهن. لذلك، من الضروري أن يعيد الفقيه النظر في نموذجه الاستدلالي الذي توصل إليه إلى هذا الاستنتاج وعدم إصدار فتوى تنتهك المعايير الأخلاقية والتربوية. على أي حال، فإنّ استخدام أحكام الأفعال الداخلية والخارجية لحلّ مختلف عناصر الفقه يُضفي عليه بُعدًا أخلاقيًا تربويًا، ويُبرز قدرة الفقه الشيعي على التأنيث والبناء الحضاري أكثر من أي وقت مضى٠

بناءً على ذلك، نقبل مصطلحي “فقه الأخلاق” و”الفقه الأخلاقي”، ونعتقد أن هذا ينبغي أن يكون جوهريًا في فقهنا. من جهة أخرى، لا نقبل مصطلح “الفقه والأخلاق” لما ينطوي عليه من تمييز وفصل بينهما، وهو ما يخالف تصوراتنا للشريعة الإسلامية الحنيفة٠

النقطة الأخيرة هي أن هذا البحث فيه كثير من الغموض، وقد حاولنا توضيحه في كتاب “من الفقه والأخلاق إلى الفقه الأخلاقي”، ونرجو أن ينال قبول العلماء٠

. ١. القواعد والفوائد، المجلد الأول، ص ٣٣

٢. الكافي (الإسلامية)، المجلد الثاني، ص ٣١

٣. المرجع نفسه، المجلد ٧، ص ٢٧٣

٤. الكافي (الإسلامية)، المجلد ٨، ص ٨

٥. المرجع نفسه، المجلد الثاني، ص ٣١١

٦. الذكرى في أحكام الشريعة، المجلد الأول، ص ٤٠

٧. بحار الأنوار، المجلد الأول.  ١٠٧، ص.  ١٠٣

٨. تحرير الأحكام الشرعية على مذهب اللامعية (ط- الحديث)، المجلد الأول.  ١، ص.  ٣٢

٩. كفاية الأحكام، المجلد.  ٢، ص.  ٧٥٢

١٠. مهذب الأحكام (للسبزواري)، المجلد الأول.  ٢، ص.  ٤٤٦

١١. جواهر الكلام في وصف شرائع الإسلام، ج١.  ٢، ص.  ١٠١