يأتي غموض هذا الحق وعدم وضوحه في النظام القانوني لجمهورية إيران الإسلامية في وقتٍ أتاح فيه التقدم العلمي والتكنولوجي وسائل وأساليب جديدة للتدخل في خصوصية الأفراد، في متناول الساعين إلى الربح والمبتزين والمتحيزين والمستغلين؛ بدءًا من ظهور الهواتف المحمولة المزودة بكاميرات وصولًا إلى تزويد الحكومات بأحدث أجهزة التجسس والتحقيق. كما يمكن ذكر أجهزة كشف الكذب واختبارات الإسقاط كإنجازات تكنولوجية في هذا المجال، والتي أتاحت التدخل في الحياة الخاصة للمواطنين بأسهل طريقة ممكنة ودون لفت الانتباه٠
من أهم التحديات التي تواجه حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الادعاء بتعارضه مع حق المواطنين في التمتع بالخصوصية. وهذه النقطة ذات صلة ليس فقط بالدول الإسلامية، بل أيضًا بدول أخرى. حجة الإسلام الدكتور مهدي كريمينيا، عضو هيئة التدريس بجامعة القرآن الكريم للعلوم والتربية، مهتمٌّ جدًّا بهذا المجال نظرًا لدراسته القانونية. في هذه المذكرة الحصرية، يُحلّل سماحته الحق في “الخصوصية” في الفقه الإمامي، والقانون الإيراني، والقانون الدولي٠
ما هي الخصوصية؟
بشكل عام، ينبغي القول إن خصوصية المواطنين هي مجال الحياة الشخصية لكل فرد، الذي لا يريد أن يطّلع عليه الآخرون دون إذنه. أهم مجالات وحدود الخصوصية هي: المنازل والأماكن الخاصة، وجسد الفرد، والمعلومات، والاتصالات، وما شابه ذلك. وخصوصية المواطنين، والتي يُشار إليها أحيانًا باسم “الحق في الخصوصية”، هي أحد حقوق الإنسان الأساسية التي تحميهم من انتهاك الآخرين لحياتهم الخاصة، ومن التدخل غير المبرر من الحكومات٠
في دساتير معظم الدول، نُظر في الخصوصية بشكل مباشر أو غير مباشر، ووردت على الأقل حرمة السكن، والبريد، والسمعة، وخصوصية الاتصالات؛ منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، بدأ وضع وسنّ قوانين عامة لحماية الخصوصية، وكادت حركة شاملة أن تدفع جميع الدول إلى اعتماد قوانين ولوائح خاصة بها٠
الخصوصية في المصادر الإسلامية
تتضمن المصادر الإسلامية، كالقرآن الكريم والأحاديث النبوية، أحكامًا عديدة تتعلق بالخصوصية والحريات الفردية؛ مثل: حق الملكية، وحظر المراقبة، ومبدأ البراءة، وحظر الشبهة، وحظر إشاعة الفاحشة، وحظر السب والهجاء والقذف والغيبة، وحظر خيانة الأمانة، وغيرها. لذلك، ورغم عدم استخدام مصطلح “الخصوصية” بدقة في المصادر الإسلامية، إلا أن أمثلة وفئات الخصوصية مُسلّطة عليها بالتفصيل٠
الخصوصية في القانون الإيراني
يُلاحظ وضعٌ مماثل في النظام القانوني الإيراني؛ إذ لا يُستخدم مصطلح “الخصوصية” في القوانين الإيرانية، ولكن مفهومه مدعومٌ ومُؤكَّدٌ عليه في مصطلحاتٍ وعناوين أخرى؛ مثل المواد ٢٢ و٢٣ و٢٥ و٣٩ من دستور جمهورية إيران الإسلامية؛ وتنص المادتان ٥٨٠ و٥٨٢ من قانون العقوبات الإسلامي على معاقبة دخول موظفي الحكومة القضائيين وغير القضائيين منازل الأفراد بشكل غير قانوني، وفتحها ومصادرتها وإتلافها وتفتيشها ومصادرتها وفتح مراسلاتها والتنصت على اتصالات الأفراد ومحادثاتهم الهاتفية٠
بالإضافة إلى ذلك، ينص الفصل الثالث من قانون الإجراءات الجنائية، المعنون “تفتيش المنازل والأماكن واكتشاف أدوات الجريمة”، على لوائح تتعلق بخصوصية المنازل والأماكن والأفراد٠
غموض مفهوم الخصوصية
على الرغم من أهميتها، لم تُشرح الخصوصية شرحًا وافيًا، ولم تُحدد حدودها، بما يضمن حمايتها من تعدي الأفراد والحكومات. لذلك، يُعدّ غموض هذا الحق وعدم وضوحه في النظام القانوني لجمهورية إيران الإسلامية، وما ينجم عنه من إشكاليات ومعضلات، من أهم ضرورات هذه القضية. فقد أدى إقرار المشرع لبعض القوانين إلى اختلال في العلاقة بين المواطنين والحكومة، وأجج انعدام الثقة والخلافات. ويرى كثير من المواطنين أن بعض القوانين الحالية تُمثل تدخلًا حكوميًا في حياتهم الخاصة، ويرفضونها بشدة٠
من ناحية أخرى، يأتي غموض هذا الحق وعدم وضوحه في النظام القانوني لجمهورية إيران الإسلامية في وقتٍ أتاح فيه التقدم العلمي والتكنولوجي وسائل وأساليب جديدة للتدخل في خصوصية الناس وأمنهم، في أيدي أفرادٍ ساعين للربح، ومبتزين، ومتحيزين، ومسيئين. من ظهور الهواتف المحمولة المزودة بكاميرات إلى تزويد الحكومات بأحدث أجهزة التجسس والاستقصاء. كما يمكن ذكر أجهزة كشف الكذب واختبارات الإسقاط كإنجازات تكنولوجية في هذا المجال، أتاحت التدخل في الحياة الخاصة للمواطنين بأسهل الطرق ودون لفت الانتباه؛ تدخلات تشوه سمعة الناس لسنوات طويلة، وتنتهك كرامة الإنسان وشرفه وكرامته، وتتسبب في الانتحار أو الجرائم بين أفراد المجتمع، وتثير الشك والقلق وانعدام الأمن النفسي والإحباط وانعدام الثقة بين أفراد المجتمع، وغيرها من العواقب الوخيمة التي لا تُسفر إلا عن أضرار جسيمة في جسد المجتمع٠
نقص البحث الإسلامي في الخصوصية
يلعب الإسلام دورًا هامًا في إرساء القواعد والمعايير اللازمة للعلاقات الاجتماعية. فمن جهة، يوصي بخصوصية الأفراد، ومن جهة أخرى، يؤكد على ضرورة الأمن في المجتمع الإسلامي؛ فبمراعاة هذين الأمرين، تسير الحياة والتفاعل الاجتماعي في مسارها الصحيح والمستقر٠
في غضون ذلك، يُعدّ واجب الحكومات في ضمان أمن أفراد المجتمع وخصوصية الأفراد بالغ الأهمية والخطورة. ففي العقود الأخيرة، ثارت نقاشات علمية عديدة في جميع الدول حول ضرورة مراعاة “خصوصية المواطنين”، حتى أن دساتير بعض الدول خصّصت فصلاً خاصاً بها٠
رغم الإشارة الضمنية والمتفرقة إلى بعض جوانب الخصوصية في المصادر الإسلامية والنظام القانوني الإيراني، إلا أنه بالنظر إلى التوجه العالمي نحو صياغة “قانون خصوصية المواطنين” بشكل مستقل وشامل، يبدو أن زمن التراخي والتقصير في هذا المجال قد ولّى، وبعد قرن من التخلف عن ركب الفقهاء والنظام القانوني الغربي، بات من الضروري إجراء المزيد من البحوث والدراسات في هذا المجال، مستلهمين روح الشريعة الإسلامية السامية، وكتابة المقالات والكتب والبحوث والتحقيقات في هذا المجال٠
ضرورة التعريف بالخصوصية وبيان أمثلة عليها
إلى جانب ضرورة صياغة وإقرار “قانون حماية خصوصية المواطنين”، يُعدّ التعريف بالخصوصية وبيان أمثلة عليها وحدودها ضرورةً أخرى في هذا الشأن؛ إذ إنّ الاكتفاء بصياغة قانون في هذا المجال دون توعية فئات المجتمع بالجوانب اللازمة يُصعّب تطبيقه.و ينبغي أولًا وقبل كل شيء، أن تهتم المراكز العلمية الأكاديمية والحوزات العلمية بشرح هذه القضية المهمة، ثمّ ينبغي أن تُدرك فئات المجتمع الأخرى، ولا سيما القائمون على إنفاذ القانون، أبعاد خصوصية المواطنين المختلفة٠
واجب الحكومات تجاه الخصوصية
تُعدّ حماية خصوصية الأفراد من أهمّ الحاجات الإنسانية، وعلى الحكومات مُلزمة بتلبية هذه الحاجة الاجتماعية بسنّ القوانين والحقوق المناسبة في هذا الشأن؛ لأنّ المواطنين يشعرون بالأمن والطمأنينة إذا اعتبروا حياتهم الشخصية، وخاصةً خصوصية منازلهم وأماكنهم، في مأمن من أيّ غزو أو اعتداء. لذا، فإن حماية خصوصية الأفراد تهدف إلى حماية الحريات الاجتماعية والسياسية وحرية التعبير والمعتقد، ليتمكن المواطنون من العيش براحة وأمان في مجتمع آمن، دون خوف من التعبير عن آرائهم ومعتقداتهم. في هذه الحالة، ستكون أرضية مشاركة الناس وتعاونهم مع المسؤولين أفضل بالتأكيد، وستُمنع أي فوضى أو انعدام أمن في المجتمع٠
مفهوم الخصوصية
“الخصوصية مشتقة من كلمة “حرام” بمعنى التحريم. يُعرّفها قاموس “عميد” الفارسي بأنها: “ما هو محرم ولا يجوز لمسه، محيط المنزل أو المبنى، المكان الذي يجب حمايته والدفاع عنه”. “الخاص” يعني أيضًا الحصري، والشخصي، والخاص، والمحدد. نفس المرجع٠
بما أن “الخصوصية” مصطلح حديث، فلم يُعثر على تعريفه الحرفي في القواميس. ومع ذلك، فإن معناه الحرفي واضح نوعًا ما. المهم هو ما تعنيه “الخصوصية” من منظور قانوني أو سياسي، وما هي الأمثلة التي ستشملها؟
على الرغم من أن الخصوصية تُعتبر من أكثر الحقوق واقعيةً وموضوعيةً وانتشارًا بين الأفراد، إلا أن أبرز خبراء العالم لم يتفقوا بعد على تعريف واحد لها. وكما صرّح وزير العدل الهولندي، السيد بولاك، في المؤتمر السادس لوزراء العدل الأوروبيين: الخصوصية مجالٌ واسعٌ لا يُمكن تعريفه٠
السبب في ذلك هو أن الخصوصية مفهومٌ واسعٌ ومرنٌ يختلف من وقتٍ لآخر ومن مكانٍ لآخر، ولا ينطبق على جميع الأفراد. من ناحيةٍ أخرى، تخضع الخصوصية للعادات والأخلاق الاجتماعية للمجتمعات البشرية، ولا تتشابه هذه الأمور في المجتمعات المختلفة. ومن الطبيعي أن تختلف قيم المجتمعات وعاداتها وتقاليدها؛ وبالتالي، فالخصوصية ليست واحدة٠
إن غياب تعريفٍ شاملٍ لا يدل على عدم أهمية هذا المفهوم؛ بل إن أحد المؤلفين صرّح قائلاً: جميع حقوق الإنسان هي جوانب وأبعادٌ للحق في الخصوصية٠
في تسعينيات القرن التاسع عشرأثار لويس برانديز، قاضي المحكمة العليا للولايات المتحدة، هذه القضية لأول مرة كنقاش قانوني جاد وصريح في مقال بعنوان “الحق في الخصوصية”، وعرّف خصوصية المواطنين بأنها “حق الأفراد في أن يكونوا بمفردهم”. ورأى أن الخصوصية هي أضعف الحقوق، وأن حمايتها يجب أن تُذكر في الدستور٠
بعد هذا التعريف الأول، فُهمت الخصوصية في تعريفات أخرى على أنها تعني “السرية”، أي الحق في إخفاء بعض الأمور عن الآخرين، والكلام والخصوصية، والحق في عدم الكشف عن الهوية، وحماية الكرامة الإنسانية٠
يبدو أن تعريف لجنة تُسمى “لجنة كولكوت” في إنجلترا قد غطت أبعاد هذا المفهوم المختلفة أكثر من غيره من التعريفات. ورأت اللجنة أنه على الرغم من أنها لم تجد بعد تعريفًا جيدًا ومرضيًا للخصوصية، إلا أنها تقبل التعريف التالي كتعريف قانوني؛
“حق الأفراد في الحماية من التدخل غير المصرح به في شؤونهم وحياتهم وأسرهم، سواء بالوسائل المادية المباشرة أو بنشر المعلومات
يرى البعض أن الخصوصية هي “الحق في التحكم في الكشف عن المعلومات الشخصية”، ويعتبرون أن جذورها تنبع من حقوق قديمة تنبع من حق الأفراد في الملكية وضرورة احترامها؛ في حين أشار بعض الخبراء إلى هذا الحق باعتباره الحق في إخفاء حقائق الحياة الشخصية عن الآخرين٠
يُنتقد التعريف المذكور أعلاه لافتقاره إلى أركان قانونية، لذا يُفضّل القول: إن الحق في الخصوصية جانب من جوانب الحياة الإنسانية لا يجوز للآخرين انتهاكها. وقد أطلق عليه بعض الخبراء اسم “الحق في الحصانة” وحق الفرد في شؤونه الشخصية٠
مكونات الخصوصية
في ضوء هذه التعاريف، يبدو أنه ينبغي مراعاة عدة أركان عند تعريف هذا الحق؛
أولاً، يتعلق نطاق هذا الحق بقضايا تندرج حصراً ضمن نطاق شؤون الأفراد الشخصية، والتي لا يرغب صاحب الحق في الكشف عنها؛ وبالتالي، مع ازدياد طابع هذه القضايا غير الشخصية ووجود صلة بينها وبين المجتمع، لم يعد من الممكن اعتباره حقاً حصرياً٠
ثانياً، لا يُمكن اعتبار الكشف عن جزء من معلومات الأفراد الخاصة وانتهاك خصوصيتهم مبرراً للكشف عن بقية المعلومات أو توزيع الجزء غير المُفصح عنه وإعادة نشره. لذلك، يُمكن تعريف الحق في الخصوصية بأنه نطاق معلومات الفرد الشخصية تماماً، والتي لا علاقة لها بالمجتمع بشكل عام. من البديهي أن هذه المسائل قد تخضع لشروط محددة تستند إلى قواعد ولوائح عامة، أو، في حال وجود شروط خاصة، تُتاح لأفراد آخرين؛ ومع ذلك، لا يمكن لأي منها أن يكون سببًا للإفصاح العام عن هذه الأسرار والمواد، والتي لا يترتب على إفشائها، على نطاق أضيق، حظر محدد٠
تُعتبر الخصوصية من أهم حقوق الإنسان الأساسية والضرورية، وترتبط ارتباطًا مباشرًا ووثيقًا بالشخصية البشرية. لذلك، أُدخلت تعريفات أخرى للخصوصية؛ مثل: “الحق في أن يُترك المرء وشأنه”، و”الحق في أن يُعامل بتكتم أو في خصوصية”، و”الحق في البقاء٠
أمثلة ونماذج على الخصوصية
نظرًا لصعوبة تعريف خصوصية المواطنين، حاول البعض ذكر أمثلة ونماذج على الخصوصية؛
١. حظر التدخل في الحياة الشخصية أو العائلية أو المنزلية؛
٢. حظر الحرية الجسدية والفكرية والثقافية؛
٣. حظر التنصت؛
٤- حظر إفشاء أسرار الحياة الشخصية؛
٥- حظر إساءة استخدام اسم الأفراد وشخصيتهم ومظهرهم؛
٦- حظر المراقبة والرصد؛
٧- حظر إفشاء الرسائل والمراسلات٠
لصعوبة تعريف خصوصية المواطنين، حاول البعض تقديم تعريفات متعددة لها لعرض أبعادها المختلفة؛ مثل؛
الخصوصية هي الحق في الانفراد؛
الخصوصية تعني تقييد وصول الآخرين إلى الشخص والقدرة على وضع حواجز تمنع الوصول غير المرغوب فيه وغير المدعو إليه؛
الخصوصية تعني السرية وإخفاء بعض الأمور عن الآخرين؛
الخصوصية تعني التحكم في المعلومات الشخصية؛
الخصوصية تعني حماية الشخصية والكرامة؛
الخصوصية تعني الحق في عالم من الخصوصية وكرامة الإنسان
تعريف الاستقلال في الخصوصية
مما سبق، يمكن تعريف الخصوصية على النحو التالي: “مجال من حياة الفرد يتوقع فيه الفرد عادةً، أو اعتيادًا، أو بإشعار مسبق، ألا يطلع الآخرون على معلومات عنه دون موافقته، أو ألا يدخلوه، أو ألا ينظروا إليه أو يراقبوه، أو ألا ينتهكوا خصوصيته بأي شكل آخر داخله”. تُعد منازل المواطنين وأماكنهم الخاصة، وأجسادهم، ومعلوماتهم الشخصية، واتصالاتهم الخاصة من أهم أمثلة انتهاك الخصوصية. كما يُعد الدخول غير المصرح به إلى المنازل والأماكن الخاصة، والتوقيف والتفتيش الجسدي، واعتراض جميع أنواع المحادثات والاتصالات، والوصول إلى المعلومات الشخصية، والكشف عن الشؤون الخاصة في المجتمع، والتحقيق في شؤون الآخرين من أهم أمثلة انتهاك الخصوصية٠