إشارة:
إن تشكيل باب فقهي فعال ومنهجي يتطلب توضيح المبادئ، الافتراضات، القواعد الفقهية الخاصة وشبكة المسائل المتعلقة به. في هذا السياق، تساعد القواعد الفقهية الخاصة على جعل هذا الباب الفقهي منهجياً ومنضبطاً، وتجعل الاستدلالات فيه متماسكة ومنظمة. يتناول حجة الإسلام الدكتور السيد حميد جوشقاني، أمين مجموعة فقه الاقتصاد في معهد الدراسات الفقهية المعاصرة، في هذه المذكرة الخاصة، بعض قواعد فقه الاقتصاد وأبعاده. وفيما يلي نص المذكرة الخاصة لعضو هيئة التدريس في قسم الاقتصاد بجامعة المصطفى في قم:
نص المذكرة:
في كل اقتصاد، تنقسم الأنشطة الاقتصادية إلى قسمين: القطاع الحقيقي (الذي يشمل الاستثمار، الإنتاج، والتوزيع)، والقطاع المالي الذي يتولى تلبية احتياجات القطاع الحقيقي المالية. يُطلق على الجزء من الاقتصاد الذي يشمل الظواهر الاقتصادية الحقيقية والعلاقات بينها، والتي لا تتطلب تحقيقها عقداً اجتماعياً، بل هي موجودة بطبيعتها خارجياً، اسم القطاع الحقيقي. تشمل هذه الظواهر، على سبيل المثال، الإنتاج، التوزيع، السلع والخدمات، رؤوس الأموال المادية وغيرها، وهي مكونات القطاع الحقيقي. وبالتالي، يشتمل القطاع الحقيقي على سوقين رئيسيين: سوق السلع والخدمات وسوق عوامل الإنتاج.
أما الجزء من الاقتصاد الذي يشمل الأمور والظواهر الاعتبارية والأصول الاعتبارية مثل النقود وبعض الأصول الأخرى كالأسهم وغيرها من الأصول المالية، والأنشطة المرتبطة بها، والمؤسسات اللازمة مثل البنوك وأسواق الأسهم وغيرها من أسواق الأوراق المالية، فيُطلق عليه القطاع الاعتباري. بعبارة أخرى، تشكل الأسواق المالية، التي تشمل “سوق النقود” و”سوق رأس المال” والعلاقات والأنشطة المرتبطة بها، القطاع الاعتباري للاقتصاد، والذي، كما أُشير، يتولى مهمة توفير التمويل وتجهيز رؤوس الأموال اللازمة للقطاع الحقيقي.
إن فصل هذين القطاعين، إلى جانب زيادة تكاليف المعاملات، يؤدي إلى عدم الكفاءة، وفي النهاية يتعين على القطاع الحقيقي تحمل تكاليف أعلى مقارنة بحالة التكامل. تؤكد الشريعة الإسلامية على التكامل بين القطاعين لتحقيق نمو اقتصادي متوازن ومستدام. مبدأ التكامل هو أحد أهم المبادئ الأساسية التي نحتاجها في نظريات الاقتصاد الإسلامي وتطوير المنتجات المالية الإسلامية. يؤدي التكامل إلى قيود على السلوكيات الاقتصادية، ولكنه يؤدي أيضاً إلى التخصص على مستوى المدخلات، مما يتيح تنظيم المخرجات في القطاعات المختلفة.
بناءً على هذه المقدمة، يمكن من الناحية الفقهية الإشارة إلى بعض القواعد الفقهية في نظام الاقتصاد الإسلامي كما يلي:
قاعدة منع الأنشطة المنتهية إلى الربا
في الاقتصاد التقليدي، يعتمد النظام المالي على معدل الفائدة على أنواع الديون المختلفة. هذا الأمر تسبب في ظهور أزمات كبيرة بشكل دوري في الاقتصاد الرأسمالي. لهذا السبب، رأى اقتصاديون مثل كينز، مينسكي، ووايتزمان أن جذور هذه الأزمات تكمن في وجود نظام الفائدة في الاقتصاد الرأسمالي وطبيعته الربوية. في حين أن الربا (فائدة المال) يتغلغل في نسيج الاقتصاد التقليدي (الرأسمالي) ويتجلى في أشكال مختلفة مثل السندات، الودائع، القروض والتسهيلات البنكية، بطاقات الائتمان وغيرها، فقد نهى الإسلام عنه بشدة.
في الاقتصاد الإسلامي، يقوم النظام المالي على أساس عائد الاستثمار واستخدام أنواع مختلفة من الشراكة. في هذا النظام، يتم إعادة توجيه المبلغ المُدّخر من خلال الشراكة إلى تيار الدخل؛ حيث يساهم المُدّخر، إلى جانب خلق دخل إضافي، في زيادة إنتاج السلع والخدمات الحقيقية، وبعد تحقيق عائد الاستثمار والإنتاج واسترداد رأس المال، يتم خلق مصدر جديد لشراكة جديدة.
قاعدة منع الغرر
مستند هذه القاعدة هو الحديث الشريف المشهور: «نهى النبي عن بيع الغرر». أحد معاني الغرر هو الخطر (المخاطرة)، كما أنه يحمل معنى الخداع والجهل. هذان المعنيان (الخطر والجهل) متساويان في الحالات التي تكون فيها العوائد ذات احتمال وقوع منخفض ولكن قيمتها عالية. الغرر وعدم اليقين (الجهل والخطر) مترابطان ارتباطاً وثيقاً، والغرر يظهر كنتيجة لعدم اليقين. قد يكون عدم اليقين أحياناً في خصائص المعاملة، وبالتبعية يتسرب إلى تحقيق نتيجة إيجابية منها.
لقد ذكر الفقهاء أربعة مصاديق لبيع الغرر: أ) خطر عدم وجود أحد العوضين؛
ب) خطر عدم القدرة على تسليم العوضين؛
ج) خطر عدم المعرفة بقيمة العوضين؛
د) خطر عدم المعرفة بخصائص وشروط المعاملة.
قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام
تعد قاعدة لا ضرر من أشهر القواعد الفقهية التي يُستند إليها في معظم أبواب الفقه مثل العبادات والمعاملات وغيرها. الدليل الأساسي لإثبات هذه القاعدة، من حيث المعنى والمضمون، هو الروايات، على الرغم من أن الآيات والعقل استُخدما أيضاً من قبل العديد من الفقهاء لإثبات القاعدة.
بما أنه لا يُقبل في بيئة الشرع أي نوع من الضرر أو الإضرار، ولم يُجعل أي حكم يؤدي بشكل مباشر ومستقل أو من حيث متعلقه إلى ضرر المكلفين، فقد قال الشارع المقدس: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»، أي أنه نفى الضرر الحقيقي الخارجي. تشمل عمومية النفي الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية؛ فكما أن حكم الوضوء (الوجوب) يُرفع في حالة الضرر ويُستبدل بالتيمم، فإن الحكم الوضعي مثل اللزوم في البيع أو المعاملة الغبنية يُرفع أيضاً، ويثبت للمغبون حق فسخ المعاملة. وجه آخر من عمومية القاعدة هو أنها تشمل الأحكام الوجودية كما تشمل عدم الحكم.
قاعدة منع أكل المال بالباطل
تثبت الآيات القرآنية وبعض الروايات هذه القاعدة بشكل جيد. الدليل الأساسي هو الآية المباركة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ». وفقاً لهذه الآية، يُمنع أي تصرف في الأموال يتم من خلال طرق تُعتبر باطلة في نظر العرف.