سماحة الشيخ محمد هادي فاضل البابلي في حوار خاص مع الفقه المعاصر:

منذ نشأة الفقه الشيعي، وبناءً على توصية الأئمة (ع) القائلة: "علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع"، كان الفقهاء مكلفين باستنباط الأحكام للمسائل الجديدة. وقد استمر هذا النهج حتى اليوم، ويجب أن يتمكن الفقه من مواكبة تحولات العصر. بالطبع، بعض الأحكام، مثل الأمور العبادية وعموميات المعاملات (البيع، الزواج، الوصية، وغيرها)، ثابتة، ولكن في الوقت نفسه، يمتلك الإسلام القدرة على استنباط إجابات جديدة للمصاديق الحديثة.

إشارة: سماحة الشيخ محمد هادي فاضل البابلي، أحد أساتذة الدروس العالية في الحوزة العلمية وعضو المجلس العلمي لمجموعة “الفقه الاجتماعي، الأخلاق والتربية” في مركز بحوث الفقه المعاصر. وبمناسبة رسالة قائد الثورة الإسلامية إلى مؤتمر الذكرى المئوية للحوزة العلمية في قم، أجرينا معه حوارًا حول الفقه المعاصر وأبعاده التعليمية والاجتماعية وتفاعله مع العلوم الأخرى. بالإضافة إلى سنوات طويلة من التدريس والبحث في الفقه، كان دائمًا منخرطًا ومستشارًا في مجال الإدارة التعليمية. وفيما يلي نص الحوار الخاص الذي أجرته “الفقه المعاصر” مع هذا الأستاذ في الحوزة العلمية في قم:

الفقه المعاصر: هل يستطيع الفقه التقليدي بمفرده تلبية احتياجات المجتمع المتغيرة اليوم؟ وما هي الآليات المقترحة لجعل الفقه ديناميكيًا في مواجهة المسائل الحديثة؟

فاضل: السؤال عن ضرورة تكييف الفقه مع التحولات الحالية هو سؤال بديهي، وجوابه واضح: نعم، يجب أن يكون الفقه قادرًا على تلبية احتياجات المجتمع المتغيرة. الإسلام، بانتظامه العالمي والشمولي عبر الزمان والمكان، يدعي أنه قادر على تلبية جميع احتياجات الفرد والمجتمع من بداية الحياة إلى نهايتها وفي جميع المجتمعات حتى يوم القيامة. هذه المسؤولية تقع على عاتق الفقهاء الذين يستنبطون الأحكام من المصادر الدينية لتقديم إجابات مناسبة. بعض الفقهاء يرون أن الإسلام يجيب فقط على الأسئلة المطروحة، بينما يعتقد آخرون أن الإسلام يمتلك أنظمة محددة في المجالات الاقتصادية والسياسية والقانونية وغيرها، ويمكنه تقديم برنامج شامل. على أي حال، هناك اختلاف في الآراء حول هذه المبادئ، ولكن ما هو متفق عليه هو ضرورة استجابة الفقه لاحتياجات العصر.

منذ نشأة الفقه الشيعي، وبناءً على توصية الأئمة (ع) القائلة: “علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع”، كان الفقهاء مكلفين باستنباط الأحكام للمسائل الجديدة. وقد استمر هذا النهج حتى اليوم، ويجب أن يتمكن الفقه من مواكبة تحولات العصر. بالطبع، بعض الأحكام، مثل الأمور العبادية وعموميات المعاملات (البيع، الزواج، الوصية، وغيرها)، ثابتة، ولكن في الوقت نفسه، يمتلك الإسلام القدرة على استنباط إجابات جديدة للمصاديق الحديثة.

هل يكفي الفقه التقليدي بمفرده؟

الجواب على هذا السؤال يأتي من زاويتين:

من منظور القدرة الداخلية للفقه التقليدي:

إذا كان المقصود هو ما إذا كان الفقه التقليدي قادرًا على تلبية احتياجات اليوم أو يجب التخلي عنه، فالجواب إيجابي. الفقه التقليدي، مع الحفاظ على أصوله ومبانيه، قادر على التكيف مع الظروف الجديدة، ولا حاجة لاستبداله بـ”فقه جديد”.

من منظور المنهجية ومعرفة الموضوعات:

إذا كان المقصود هو ما إذا كان بالإمكان الاستجابة دون أي تغيير في المنهجيات وبدون النظر إلى الموضوعات الجديدة، وبنفس النظرة التقليدية فقط، فالجواب سلبي. يحتاج الفقه التقليدي إلى تعزيز في مجالين:

  • المنهجية: تطوير أصول الاستنباط وتعزيز القدرة على الاستظهار من المصادر الدينية.
  • معرفة الموضوعات: التعرف الدقيق على المسائل الجديدة في مجالات مختلفة (الطب، الفن، العلاقات الدولية، وغيرها) قبل أن تتحول إلى معضلات اجتماعية.

آليات ديناميكية الفقه

لتلبية الاحتياجات المتغيرة، يجب:

  • تعزيز العلاقة بين الفقهاء والمراكز المتخصصة في المجالات المختلفة (الاقتصاد، الطب، التكنولوجيا، وغيرها).
  • تدريب الطلاب والفقهاء في التخصصات الدقيقة ليتمكنوا من تحليل الموضوعات المعقدة بشكل صحيح.
  • إذا اعتبرنا الفقه منظومة، فيجب على الفقهاء، بالإضافة إلى استنباط الأحكام الجزئية، تصميم الأنظمة الكلية (النظام الاقتصادي، نظام الحكم، وغيرها)، وهذا يتطلب دراسة عميقة في العلوم الحديثة.

الفقه المعاصر: هل يجب إدراج الفقه المعاصر كتخصص مستقل في المنهج الدراسي للحوزة، أم يُطرح كموضوعات تكميلية ضمن دروس الفقه التقليدي؟

فاضل: في السنوات الأخيرة، شهدنا اهتمامًا جديًا بالفقه المعاصر في الحوزات العلمية. وقد تم هذا التحول في أبعاد مختلفة، بما في ذلك المنهجية، المناهج الدراسية، والموضوعات التعليمية. في الواقع، يمكن القول إن هذا المجال شهد تقدمًا ملحوظًا أكثر من غيره.

السؤال المطروح هو: هل يجب إدراج الفقه المعاصر كتخصص مستقل في المنهج الدراسي للحوزة، أم يُطرح كموضوعات تكميلية ضمن دروس الفقه التقليدي؟ يبدو أن كلا النهجين ممكن:

  • تخصص مستقل: في الأنظمة الأكاديمية الحديثة، أصبحت المنهجيات والأساليب العلمية تُطرح كتخصصات مستقلة. قد يُعرف الفقه المعاصر في المستقبل كتخصص مستقل يركز على دراسة منهجيات استنباط المسائل الحديثة.
  • موضوعات تكميلية: في الوقت الحالي، النهج السائد هو إدراج الفقه المعاصر كموضوعات تكميلية ضمن دروس الفقه التقليدي. وقد لقي هذا النهج ترحيبًا من الأساتذة والمفكرين في الحوزة، ويبدو أنه كافٍ لتلبية الاحتياجات الحالية.

بعد التعليم العام للطلاب في أسس الفقه الأولية، يجب أن تتناول المراحل التخصصية كل تخصص (مثل الفقه الاقتصادي، الفقه الطبي، أو فقه الحكم) بشكل مستقل لمعالجة المسائل المعاصرة. هذا النهج يمكّن المتخصصين في كل مجال من اكتساب القدرة على استنباط الأحكام المتعلقة بالمسائل الجديدة.

الفقه المعاصر: هل يمكن أن يؤدي التركيز على الفقه المعاصر إلى جذب اهتمام الجيل الشاب وزيادة القبول الاجتماعي للحوزات العلمية؟

فاضل: الحوزات العلمية، للحفاظ على مكانتها العلمية والتفاعل الفعّال مع البيئات الأكاديمية الأخرى، لا بد أن تتناول المسائل الحديثة والمعاصرة. هذا النهج لا يلبي احتياجات المجتمع فحسب، بل يعزز أيضًا المصداقية العلمية للحوزة. إن تكرار المباحث السابقة دون ربطها بالمسائل اليومية، حتى لو أنتج تراكمات علمية قيمة، لن يؤدي إلى نمو وتكامل حقيقي.

التركيز على الفقه المعاصر بلا شك سيؤثر في جذب اهتمام الجيل الشاب وزيادة القبول الاجتماعي للحوزات العلمية. إذا اقتصرت الحوزة على مناقشة مسائل ليس لها تطبيق عملي اليوم أو ذات تأثير محدود، ستفقد تدريجيًا مكانتها الاجتماعية. الجيل الشاب يتوقع إجابات لأسئلة العصر الحالي. مسائل مثل المعاملات بالعملات الرقمية، الميتافيرس، أو المخططات الهرمية تتطلب إجابات فقهية مدعومة بالأدلة تقنع الشباب المتدينين.

في هذا المسار، يجب التركيز على فئتين من المسائل:

  • الأمور الثابتة مثل الأحكام العبادية (الصلاة، الحج، الزكاة) التي لا تتغير مبادئها.
  • الأمور الاجتماعية المتغيرة التي تتطلب اجتهادًا ديناميكيًا وإجابات جديدة.

على الرغم من أن الحوزات العلمية لا تسعى لكسب شعبية اجتماعية، وواجبها الأساسي هو اكتشاف الحكم الإلهي، فإن الاستجابة لاحتياجات المجتمع الفعلية ستؤدي بشكل طبيعي إلى زيادة الثقة العامة. عندما يشعر المفكرون والجمهور أنهم يتلقون إجابات دينية مدعومة بالأدلة لهمومهم اليومية، ستزداد ثقتهم بالحوزة تدريجيًا. هذه الثقة لا تأتي من محاولة كسب الرضا، بل من أداء الواجبات العلمية بشكل صحيح.

واجب الحوزة ليس فقط اكتشاف الأحكام الإلهية، بل تقديم هذه الأحكام بطريقة يمكن للمجتمع اليوم فهمها وتطبيقها. وهذا يتطلب:

  • التعرف الدقيق على المسائل الجديدة.
  • تقديم إجابات مدعومة بالأدلة والمنطق.
  • صياغة الأحكام بلغة يمكن للعامة فهمها.
  • الحفاظ على المبادئ الدينية الثابتة مع الاستجابة للاحتياجات المتغيرة.

هذا النهج لا يعزز المكانة العلمية للحوزة فحسب، بل يجعل الفقه الشيعي يُعرف كنظام ديناميكي وفعّال في حل مسائل المجتمع.

الفقه المعاصر: ما هي أهم المسائل الفقهية الحديثة التي تحتاج إلى بحث وتقديم رأي فقهي؟ (مثل الذكاء الاصطناعي، زراعة الأعضاء، العملات الرقمية)؟

فاضل: في عصرنا الحالي، نواجه العديد من المسائل التي تتطلب إجابات فقهية:

  • في الطب: زراعة الأعضاء والمسائل المتعلقة بها، الفحوصات الجينية أثناء الحمل، التشخيصات الدقيقة باستخدام التصوير المتقدم، مسائل تشريح الجسم.
  • في الاقتصاد: العملات الرقمية، أنواع جديدة من الشركات (أكثر من ٢٠٠ نوع)، العقود الآجلة والعقود المعقدة، المخططات الهرمية.
  • في علم النفس والقانون: مسؤولية الأفراد الذين يعانون من اضطرابات نفسية، معايير الصحة النفسية لتحمل المسؤوليات المهمة.
  • في الفن: الفنون الحديثة مثل النحت المعاصر، الأعمال الفنية المنتجة بالذكاء الاصطناعي.
  • في المسائل الاستهلاكية: معايير جديدة للمنتجات الحلال، استخدام مواد جديدة في الأدوية.
  • في الفلك: رؤية الهلال باستخدام الأدوات المتقدمة.

هذه المسائل هي أمثلة على ما يجب أن يتناوله الفقه المعاصر. يجب على كل فقيه، عند مواجهة هذه المسائل، أن يقدم إجابات مناسبة باستخدام المصادر الدينية وأصول الفقه. هذا هو ما يجب أن يقوم به الفقه الديناميكي ليتمكن من الاستجابة لاحتياجات المجتمع.

الفقه المعاصر: هل يمكن للأساتذة الحاليين في الحوزة، الذين يتمتعون بالإتقان في الفقه التقليدي، تدريس الفقه المعاصر، أم أن هناك حاجة لتدريب قوى جديدة ذات تخصص مزدوج (فقه وعلوم حديثة)؟

فاضل: قضية تدريب الأساتذة للفقه المعاصر تتطلب نظرة دقيقة وشاملة. الأساتذة الحاليون في الحوزة، الذين يتمتعون بالإتقان في الفقه التقليدي، يمكنهم الدخول في مجال الفقه المعاصر مع الحفاظ على نفس الأصول وأساليب الاستنباط. وهذا يتطلب أن يكون هؤلاء الأساتذة، مع التزامهم بمبادئ الفقه الجواهري، على دراية بالموضوعات الجديدة في التخصصات المختلفة.

لتحقيق هذا الهدف، يجب اختيار الأساتذة الشباب والموهوبين، ومع التخطيط الدقيق، إعدادهم لمواجهة المسائل الحديثة. يشمل هذا الإعداد دورات متخصصة في معرفة الموضوعات، دراسة النصوص العلمية الحديثة، وإعداد مصادر تعليمية مناسبة. كما يجب أن يتم تقسيم العمل بين الأساتذة بناءً على اهتماماتهم ومواهبهم.

التحدي الأكبر في هذا المسار هو الطبيعة الطويلة لعملية تدريب الأساتذة والحاجة إلى التنسيق بين المؤسسات الحوزوية المختلفة. ولكن بدلاً من تدريب قوى جديدة تمامًا قد لا تكون ملمة بأصول الفقه التقليدي، من الأفضل تمكين الأساتذة الحاليين من خلال التدريب التكميلي.

هذا النهج له ميزتان رئيسيتان: أولاً، يمنع الانحرافات المنهجية، وثانيًا، يستجيب لاحتياجات المجتمع اليومية. بالطبع، هذا يتطلب الصبر، التخطيط، وتوفير الموارد التعليمية الكافية. في النهاية، يمكن لهذا النهج، مع الحفاظ على أصالة الفقه الشيعي، أن يجهزه للاستجابة للمسائل الجديدة.

Source: External Source