عُقدت الجلسة التخصصية الثامنة والخمسون من "أحديات المنهج" في معهد دراسات الفقه المعاصر

أكد حجة الإسلام والمسلمين محمد تقي سبحاني على لزوم إعادة تعريف البنى المعرفية وجعل العلوم الإسلامية بينية التخصصات

عُقدت الجلسة الثامنة والخمسون من سلسلة الجلسات التخصصية "أحديات المنهج" تحت عنوان "الضرورات المنهجية لتحويل المعارف الإسلامية إلى ثقافة عامة"، وذلك بجهود معهد دراسات الفقه المعاصر ومكتب تطوير العلوم الإسلامية. وفي هذه الجلسة، شرح حجة الإسلام والمسلمين محمد تقي سبحاني أسس وأطر المنهجية التطبيقية للمعارف الدينية، وأبرز ضرورة الانتقال من المنهج الخطي إلى النظام الشبكي للمعرفة.

إشارة: في الجلسة التخصصية التي حملت عنوان “الضرورات المنهجية لتحويل المعارف الإسلامية إلى ثقافة عامة”، أكد حجة الإسلام والمسلمين محمد تقي سبحاني، رئيس “قطب تعميق الإيمان الديني ومواجهة المعتقدات المنحرفة”، على أهمية مكانة “المنهج” في تطبيق المعارف الدينية في الثقافة العامة. واعتبر هذه العملية جسراً بين التنظير والحياة الواقعية، وتحدث عن قلة الاهتمام بهذا المجال.

حدد رئيس “قطب تعميق الإيمان الديني” ثلاث آفات رئيسية للنظام المعرفي التقليدي، وهي: اللغة النخبوية وغير المفهومة للعامة، والنظرة الاختزالية والمفاهيمية دون بيان تطبيقي في الحياة، وهيمنة المنهج المقارن-الهوياتي.

وضمن نقده للنظام الخطي للتعليم الديني، أشاد بالنظام الشبكي للمعارف الدينية الذي تتشابك فيه الأخلاق والعقائد والأحكام، واعتبر إعادة تعريف الإيمان كعملية تشكيكية، والتمييز بين المسألة والاحتياجات الحقيقية للإنسان، وضرورة الاستفادة من العلوم الإنسانية مثل علم الثقافة وعلم النفس الاجتماعي وعلم الإعلام، من المتطلبات الأساسية لتطبيق المعارف.

عُقدت الجلسة الثامنة والخمسون من سلسلة الجلسات التخصصية “أحديات المنهج”، يوم الأحد ٣٠ شهريور ١٤٠٤، وقدمها حجة الإسلام والمسلمين محمد تقي سبحاني تحت عنوان “الضرورات المنهجية لتحويل المعارف الإسلامية إلى ثقافة عامة”. وقد أقيمت هذه الجلسة العلمية، التي شهدت إقبالاً من الباحثين وأساتذة الحوزة والجامعة والمهتمين بالدراسات الدينية والثقافية، بجهود معهد دراسات الفقه المعاصر وبالتعاون مع مكتب تطوير وتمكين العلوم الإسلامية التابع لمكتب التبليغات الإسلامية.

في بداية الجلسة، رحب حجة الإسلام والمسلمين محمد كاظم حقاني فضل، الأمين العلمي للجلسة، بالحضور وشرح أهمية وأهداف عقد هذه الجلسة العلمية.

وأكد مدير موسوعة الفقه المعاصر في مقدمته على المكانة الأساسية لـ “المنهج” في أي نشاط اجتماعي أو ثقافي أو علمي، قائلاً: “المنهج ليس مسألة فرعية، بل هو الركن الأساسي في تحقيق أي معرفة. حتى لو لم يستخدم علماء علم ما منهجاً معيناً بشكل واعٍ، إلا أنهم في الممارسة يتبعون منهجاً واحداً ومحدداً”.

وأشار حجة الإسلام والمسلمين حقاني فضل إلى تركيز معهد دراسات الفقه المعاصر ومكتب تطوير العلوم الإسلامية على موضوع المنهج في الفصلين الأخيرين (الربيع والصيف)، مضيفاً: “في عملية تعميم المعارف الإسلامية، لا يمكن للمقولات الدينية والفقهية أن تجد طريقها إلى ساحة الثقافة العامة دون سند منهجي دقيق. في العالم الجديد، نواجه تحولات واسعة في تصور الإنسان والمجتمع، بحيث لم تعد المناهج السابقة تلبي احتياجات اليوم. إن فشل بعض السياسات والإجراءات الثقافية لنظام الجمهورية الإسلامية في تحقيق الأهداف الدينية، لا يعود أحياناً إلى ضعف المحتوى، بل إلى ضعف المنهج، بل إن عدم وضوح المسار المنهجي قد أدى إلى نتائج عكسية لبعض الإجراءات”.

وقام الأمين العلمي للجلسة بتقديم حجة الإسلام والمسلمين محمد تقي سبحANI، مشيراً إلى سيرته العلمية، وأضاف: “إنه من المفكرين البارزين الذين أداروا العديد من المشاريع في مجال العلمنة وتسييس الدين؛ وهي قضايا ترتبط ارتباطاً مباشراً ببحث تعميم وترسيخ المعارف الدينية. كما أنه بفضل أبحاثه الواسعة في مجال تراث أهل البيت (عليهم السلام)، يمكنه أن يبين جيداً الصلة بين التقاليد الدينية والاحتياجات الثقافية المعاصرة”.

وتابع معتبراً هذا الحضور فرصة ثمينة لدراسة أدق للمناهج الفعالة في ترويج الثقافة الدينية في المجتمع، وأعرب عن أمله في أن تمهد هذه الجلسة لتحولات فكرية ومنهجية في هذا المجال.

بعد ذلك، قدم حجة الإسلام والمسلمين محمد تقي سبحاني، رئيس “قطب تعميق الإيمان الديني ومواجهة المعتقدات المنحرفة”، بحثه تحت عنوان “أسس وأطر المنهجية في تطبيق المعارف الدينية”.

وأكد على المكانة المحورية لـ “المنهج” في عملية إنتاج وتطبيق العلم، مشيراً إلى ضرورة بيان آليات محددة في ترسيخ المعارف الدينية في مجال الثقافة، وقال: “إن الحديث عن تطبيق وتطوير المعارف الدينية في ساحة العمل، يعني وضع ميدانين متمايزين تماماً – التنظير والحياة الواقعية – جنباً إلى جنب، والسعي لبناء جسر بينهما”.

ومن خلال دراسته للتجارب العالمية المحدودة، أشار إلى قلة الاهتمام بهذا المجال على المستوى الدولي، وذكر من بينها تخصصات مثل “اللاهوت التطبيقي” في المسيحية، والتي تعتبر محاولة موازية لحضور التعاليم الدينية في الحياة اليومية. وبيّن أنه “في الأدبيات العلمية الغربية، تشكلت تجارب ميدانية ومجلات تخصصية عديدة حول هذا الموضوع”، مضيفاً: “مع ذلك، لم يصلوا بعد إلى نقطة ارتكاز موثوقة في هذا المجال. ومن هنا، فنحن أيضاً في مسار منهجية بناء الثقافة، بحاجة إلى قفزة فكرية وهيكلية”.

تشخيص آفات المعرفة الدينية في التراث الإسلامي

في القسم التالي من كلمته، تناول حجة الإسلام والمسلمين سبحاني بالدراسة النقدية البنية التقليدية للعلوم العقلية والكلامية في الحوزات العلمية، مؤكداً على ثلاث آفات رئيسية في نظام المعارف الدينية، قائلاً:

١. لغة نخبوية وأكاديمية:
تُقدم المعارف الدينية غالباً في قالب تخصصي ومفاهيمي وصعب، وهي غير مفهومة وغير قابلة للتطبيق لعامة الناس. هذه اللغة، بدلاً من الارتباط بالحياة، تقتصر فقط على الدوائر النخبوية.

٢. نظرة اختزالية ومفاهيمية:
تسعى الكثير من أعمالنا الكلامية إلى إثبات أصول الدين العامة (مثل التوحيد، النبوة، الإمامة) دون أن تبين لوازم هذه المفاهيم في الحياة اليومية.

٣. هيمنة المنهج المقارن والهوياتي:
تشكل جزء كبير من علم الكلام في تاريخ الإسلام في سياق الدفاع عن هوية الأقلية (الشيعة) في مواجهة الأكثرية، ولهذا السبب، كانت نظرته إثباتية وهوياتية أكثر منها تطبيقية وتحويلية.

نقد المنهج الخطي في تعليم المعارف الدينية

كما اعتبر النظام الخطي السائد في تعليم العقائد الدينية أحد العوائق الجادة أمام تطبيق المعرفة الدينية. وأشار إلى منهج “التأسيسية والمنطق القياسي”، مضيفاً: “أن يضطر الفرد لفهم مسألة عقائدية بسيطة، إلى أن يبدأ من مباحث الوجود ليصل إلى التوحيد والنبوة وغيرها، فهذا يدل على نظام جامد وغير فعال، عاجز عن نقل الدين إلى حياة اليوم”.

وفي المقابل، أكد رئيس “قطب تعميق الإيمان الديني ومواجهة المعتقدات المنحرفة” على النظام الشبكي للمعارف الدينية، واعتبره مفتاحاً للتحول. وفي اعتقاده، فإن القرآن الكريم يرتكز أيضاً على هذا المنهج؛ حيث تتشابك فيه الأخلاق والعقائد والأحكام ونمط الحياة، ولا يوجد فصل بين النظر والعمل.

وفي القسم الأخير من عرضه، طرح حجة الإسلام والمسلمين سبحاني عدة متطلبات أساسية في مسار تدوين منهجية تطبيق المعارف الدينية:

  • إعادة تعريف الإيمان كمقولة تشكيكية:
    أشار إلى أن: “الإيمان والتدين لهما مراتب، ولا ينبغي افتراضهما كحزمة من المعتقدات يمتلكها الأفراد إما بالكامل أو لا يمتلكونها على الإطلاق. لتحقيق التحول، يجب قبول عملية النمو التدريجي. وقد حوّل نبي الإسلام المجتمع الجاهلي إلى مجتمع مؤمن من خلال هذا المسار نفسه”.

  • الانتقال من المسألة إلى الحاجة:
    بحسب اعتقاد حجة الإسلام والمسلمين سبحاني، يجب في منهج التحول التمييز بين “المسائل” و”الاحتياجات”. إن نقطة اتصال المعرفة بالواقع هي الاحتياجات الوجودية للإنسان التي تنبع من مسائله الواقعية. بدون تحديد دقيق للحاجة، ستكون مناهج التحول غير فعالة.

  • ضرورة الاعتماد على العلوم المكملة:
    أكد أنه لترسيخ الثقافة الدينية، لا يكفي امتلاك المعارف النظرية وحدها، بل يتطلب الأمر الاستفادة من العلوم الإنسانية المعاصرة مثل:

    • علم الثقافة، بمعنى المعرفة الدقيقة لبنى وآليات الثقافة.

    • علم النفس الاجتماعي، لتحليل تفاعل الإنسان والبيئة.

    • علم الإعلام، كأداة رئيسية للتأثير في عالم اليوم.

وفي الختام، أكد حجة الإسلام والمسلمين سبحاني على ضرورة إعادة بناء الجهاز المعرفي، قائلاً: “لدخول مجال تطبيق المعارف، يجب أولاً أن تتغير بنيتنا الذهنية والمنهجية في مجال علم الكلام والمعارف الدينية؛ من الخطي إلى الشبكي، ومن الذهني إلى العيني، ومن الأكاديمي إلى الاجتماعي. هذا تغيير جوهري، وليس إصلاحاً سطحياً”.

بعد عرض حجة الإسلام والمسلمين سبحاني، خُصص وقت الجلسة للأسئلة والأجوبة؛ حيث ساهم الحضور في تعميق المباحث المطروحة من خلال طرح أسئلة متنوعة.

في هذا القسم، تم بيان ضرورة أن يكون العلم المتعلق بتحويل المعارف الدينية إلى ثقافة عامة بيني التخصصات، وسُئل حجة الإسلام والمسلمين سبحاني عما إذا كان هناك علم معين يتحمل المسؤولية المحورية في هذه العملية. فأجاب بأن مثل هذا العلم يجب أن يتشكل وأن يلعب دوراً تنسيقياً، لكن هذه المسؤولية لا يمكن أن تقع على عاتق علم واحد بمفرده، وتتطلب وفاقاً وتعاوناً بين التخصصات.

وفي السؤال التالي، طُرح موضوع التوفيق بين النظرة “المنظومية” للدين والتخصصية. فأجاب حجة الإسلام والمسلمين سبحاني بأنه لا يوجد تعارض بين الشمولية والتخصصية، بل يمكن الحفاظ على كليهما في آن واحد من خلال تصميم هياكل مشتركة. وشبّه نظام المعرفة الدينية بشجرة لكل غصن وورقة فيها وظيفتها الخاصة.

وتناولت الأسئلة الأخرى موضوعات مثل التدين كعملية نمو، وعلاقة الفقه بالنظام الشبكي للدين، وتصميم علم جديد في مجال علم الثقافة الإسلامي، ونقد الهندسة الثقافية الجامدة، والتي أجاب عليها رئيس “قطب تعميق الإيمان الديني ومواجهة المعتقدات المنحرفة” بدقة وتبصر.

وفي ختام هذه الجلسة، أكد الأستاذ سبحاني على ما يلي:

  • الثقافة ظاهرة تتجاوز الفقه والفلسفة والتاريخ.

  • يجب تشكيل مؤسسة علمية مستقلة لها.

  • بنظرة عملية وشبكية وبينبة التخصصات إلى الدين، يمكن جعل المعارف الدينية جارية في حياة الناس.

  • يجب على الفقه أن يخرج من النظرة الخطية ويتجه إلى تصميم أنظمة عملية للحياة المتدينة.

  • يجب على الحوزة، في تصميمها للعلوم الإنسانية الإسلامية، أن تأخذ في الاعتبار دور الثقافة، كميدان حي.

Source: External Source