حجة الإسلام والمسلمين إبراهيم باقري

الأصول العملية القضائية/6

لإثبات أصل الجريمة كمعيار في الجرائم المرتكبة في الأمور الجزائية، تم حصر واستقراء أدلة إثبات خاصة، وهي: الإقرار، الشهادة، القسامة، علم القاضي، وفي حالة واحدة القسم. لذلك، الأصول العملية لا تكون فعّالة لإثبات أصل الجريمة، ولكن يمكننا استخدام الأصول العملية في تفاصيل وفروع هذه الجرائم.

إشارة: حجة الإسلام والمسلمين إبراهيم باقري، من الأساتذة البارزين في الفقه والحقوق في الحوزة العلمية بقم. يعمل منذ عقود في تدريس وبحث الفقه القضائي والجزائي، وهو أحد المؤلفين الثلاثة الرئيسيين للشرح الشامل والعملي لقانون العقوبات الإسلامي. وقد حصل على لقب الباحث المتميز في القضاء لمدة سبع سنوات متتالية. في هذه الملاحظة الخاصة للفقه المعاصر، يتناول جريان الأصول العملية في الفقه القضائي. يعتقد أن الأصول العملية لا تُستخدم لإثبات الجريمة، لكن هذا لا يعني عدم فعاليتها في الفقه القضائي، حتى في الأمور الجزائية.

معنى القضاء

أساسًا، جاء الفقه ليكون، بالاعتماد على الأدلة والاستدلالات القوية والمتينة، مرشدًا لحياة متشرعة للأفراد الذين يعيشون في المجتمع، ويوصل الأحكام التي يستخلصها الفقيه الجامع للشرائط بناءً على الأدلة والمصادر إلى المكلفين. أحد هذه الأحكام، التي جاءت في إطار باب فقهي مستقل، هو أحكام فقه القضاء. لكن معنى القضاء في العرف هو التحكيم بين الناس أو المتخاصمين. أما من الناحية الفقهية، فالمقصود به الحكم الذي يُصدر لدفع التنازع، وفق الشروط التي وضعها الشرع وبولاية شرعية مُنحت لأهلها.

عدم جريان الأصول العملية لإثبات الحكم الجزائي

بعد توضيح معنى فقه القضاء، ننتقل إلى مناقشة مكانة الأصول العملية في هذا الباب الفقهي. بشكل عام، من الصعب جدًا أن يتم الحكم بين المتخاصمين بناءً على الأصول العملية؛ لأن أدلة مشروعية حكم القاضي لا تشمل الأصول العملية. على سبيل المثال، أحد هذه الأدلة هو الرواية النبوية المشهورة: «البيّنة للمدّعي واليمين على من أنكر». هذه الرواية هي تعبير آخر عن رواية نبوية أخرى تقول: «أني أحكم بينكم بالبيّنات والأيمان». وفقًا لهذه الروايات وغيرها من الروايات التي تُبيّن حجية قول القاضي، فإن معيار حكم القاضي هو البيّنة والقسم، ولا يمكن الحكم بناءً على الأصول العملية مثل الاستصحاب، البراءة، التخيير، أو الاحتياط. بعبارة أخرى، الأصول العملية ليست ضمن موازين القضاء التي يمكن التمسك بها للحكم.

فعالية الأصول العملية في غير حالات إثبات الحكم الجزائي

بالطبع، ما أعنيه بعدم جريان الأصول العملية في القضاء هو عدم جواز استخدامها كدليل، ولكن لا مانع من استخدامها لإثبات البيّنة أو القسم. بعبارة أخرى، إذا أردنا الحكم بين المتخاصمين باستخدام الأصول العملية لتحديد من له الحق، فأعتقد أنه لا يمكن التمسك بها؛ لكن إذا أردنا إثبات دليل القضاء، وليس أن تكون الأصول العملية نفسها في مقام الدليل، فلا مانع من ذلك. على سبيل المثال، إذا أردنا التمسك بالاستصحاب لبقاء العدالة لإثبات عدالة البيّنة حتى تتمكن من الشهادة، فلا مانع من التمسك بالأصول العملية في هذه الحالة. وقد ناقش المرحوم النراقي هذه المسألة وقال: «لا شك في جواز شهادة الشاهد بالاستصحاب».

لإثبات أصل الجريمة كمعيار في الجرائم المرتكبة في الأمور الجزائية، تم حصر واستقراء أدلة إثبات خاصة، وهي: الإقرار، الشهادة، القسامة، علم القاضي، وفي حالة واحدة القسم. لذلك، الأصول العملية لا تكون فعّالة لإثبات أصل الجريمة، ولكن يمكننا استخدام الأصول العملية في تفاصيل وفروع هذه الجرائم. لماذا؟ لأن أدلة حجية هذه الأصول لا تقتصر على حالة معينة، بل هي جارية في جميع الحالات. على سبيل المثال، روايات حجية الاستصحاب، مثل صحيحة زرارة، تثبت ذلك لجميع الحالات التي يكون فيها شك وحيرة في بقاء الحالة السابقة. على سبيل المثال، إذا ارتكب شخص قتلًا وكان مجنونًا سابقًا، والآن نشك هل زال جنونه وأفاق أم لا؟ في هذه الحالة، يمكننا التمسك بالاستصحاب واستنتاج بقاء جنونه. تناول المرحوم الصدوق هذه المسألة بشكل مفصل في كتابه “الشرائع”، كما نقل الشيخ المفيد رواية في هذا الصدد في كتابه “الإرشاد”.

هذه الأمثلة كلها تتعلق بإثبات تفاصيل ولوازم الحكم، وإلا فإن الأصول العملية لا تستطيع إثبات أصل الحكم. نعم، في حالة أصل البراءة، يمكن ردّها إلى القاعدة العقلية “قبح العقاب بلا بيان” ونفي العقوبة. في قانون العقوبات الإسلامي جاء:

المادة ١٢٠ من قانون العقوبات الإسلامي: إذا وقع شك أو تردد في وقوع الجريمة أو بعض شروطها أو أي من شروط المسؤولية الجزائية، ولم يُوجد دليل على نفيها، فإن الجريمة أو الشرط المذكور لا يثبت حسب الحالة.

المادة ١٢١ من قانون العقوبات الإسلامي: في الجرائم الموجبة للحد، باستثناء المحاربة، والإفساد في الأرض، والسرقة، والقذف، فإنه بمجرد وجود شبهة أو تردد، وبدون الحاجة إلى تحصيل دليل، لا تثبت الجريمة أو الشرط المذكور حسب الحالة.

القاعدة الدرء، التي تستند إلى الرواية «ادرؤوا الحدود بالشبهات»، ترجع أيضًا إلى البراءة؛ لذلك، فإن أصل البراءة في الأمور الجزائية مفيد ويمكن استخدامه.

جريان الأصول العملية في الأمور الحقوقية

أما فيما يتعلق بالأمور الحقوقية مثل الزواج، الطلاق، والمعاملات التجارية، فيمكن أيضًا التمسك بالأصول العملية. على سبيل المثال، في مسألة خيار المجلس في البيع، التي تستند إلى الرواية «البيعان بالخيار ما لم يفترقا»، إذا حدث إكراه على التفرق ونشك هل ينتفي الخيار مع التفرق الإكراهي أم لا، يمكن بالتمسك بالاستصحاب استنتاج بقاء الخيار. أو في مسألة النكاح، إذا ادعت امرأة أنها تزوجت من رجل وأنكر ذلك، فإذا كان لديها بيّنة، يُعطى الحق لها؛ لكن إذا لم يكن لديها أي دليل، ونشك هل وقع هذا العقد أم لا، فإننا نستصحب عدم تحقق علقة الزواج. وكذلك إذا ادعى شخص أن على ذمة شخص آخر دينًا ولم يكن لديه دليل على هذا الادعاء، فبالتمسك بأصل البراءة، نستنتج عدم اشتغال ذمة المدعى عليه؛ لذا فإن الأصل العملي مثل البراءة يُستخدم أيضًا في الأمور الحقوقية مثل نفي الدين أو نفي الدين الزائد.

النتيجة

الخلاصة أن الأصول العملية لا تُطبق في الأمور الجزائية، ولا يمكننا إثبات جريمة بالتمسك بها؛ لكنها قابلة للاستخدام في فروع المسائل الجزائية. كما أن هذه الأصول جارية في الأمور الحقوقية.

Source: External Source