علي رضا صالحي

حق الكرامة والمساواة الإنسانية من منظور الفقه/8

في التعاليم الإسلامية أيضاً قُبلت مبدأ المساواة، لكن لتحقيق العدالة فُصِّل في بعض أبعادها؛ بحيث إلى جانب قبول المساواة الأساسية، اشترطت شروط خاصة لبعض المناصب السياسية، ووُضعت فروق في الأحكام الاقتصادية والحقوقية؛ وبالتالي يمكن القول إن المساواة الإنسانية – سواء في الفكر الحديث أو في التعاليم الدينية – أساس للعدالة والحرية والديمقراطية.

إشارة: «حق المساواة الإنسانية» من الموضوعات السهلة الممتنعة؛ سهلة لأن تصوّرها وتعريفها يبدو في النظرة الأولى يسيراً جداً، وممتنعة لأن في كثير من مصاديقها خلاف ونزاع. هذا الحق، وإن كان من الحقوق الأولية للإنسان، إلا أنه يبدو في مواضع عديدة من الشريعة الإسلامية منتهكاً. كثير من الباحثين الفقهيين يرون سبب ذلك تنافيه مع العدالة التي يجب أن تكون – خلافاً للمساواة الإنسانية – معيار توزيع الحقوق والتكاليف. الدكتور علي رضا صالحي، الباحث البارز في موسوعة الفقه المعاصر، يتناول في هذه المقالة الحصرية ماهية هذا الحق وأبعاده.

حق المساواة الإنسانية الذي يُعدّ اليوم من أركان الحقوق الأساسية للإنسان وأساساً للديمقراطية، وإن استقر في ذهن البشرية عبر عملية تاريخية طويلة نسبياً، إلا أنه بسبب فعاليته في العصر الحديث يُعتبر مفهوماً حديثاً مرتبطاً مباشرة بالثقافة الحديثة. يُعدّ هذا الحق من الحقوق غير القابلة للسلب وعالمية الشمول، مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بمصير الفرد والمجتمع الإنساني.

تحوّل فكر المساواة الإنسانية في العالم المعاصر إلى قوة كبرى للتغييرات الجذرية في القوانين العامة والدساتير في دول مختلفة. هذا الفكر أثّر تأثيراً بالغاً ليس فقط في القوانين الداخلية، بل في صياغة الإعلانات العالمية مثل إعلان حقوق الإنسان وإعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام.

يُعتبر أساس حق المساواة الإنسانية كرامته الذاتية؛ أي أن كل إنسان – لمجرد كونه إنساناً – يملك شأناً وكرامة ذاتية، وحياة إنسانية تستلزم تمتّعه بما يحفظظ على كرامته. لذلك لا يجوز أن يحرمه الاختلاف في العرق أو الجنس أو اللون أو الدين أو الجغرافيا أو اللغة… من الحقوق المتساوية مع غيره من البشر، أو يؤدي إلى تمييز ضده في التمتع بها. ويؤكد هذا المبدأ أيضاً أنه لا يجوز اعتبار إنسان أو جماعة أعلى أو أدنى من غيره بسبب خصائص ذاتية.

في البحوث الدينية الإسلامية أيضاً، استناداً إلى الآيات والروايات وسيرة المعصومين، يُؤكَّد على قبول حق المساواة الإنسانية ويُعتبر أساس النظام الاجتماعي الإسلامي، فيُعطى له مكانة خاصة في التعاليم الدينية. من التعاليم المستند إليها: خلق البشر من نفس واحدة، الفطرة الإلهية لجميع البشر، كرامة بني آدم، تكامل الرجل والمرأة معاً، قيمة الإنسان حسب عمله، مسؤولية كل إنسان عن سلوكه.

حق المساواة الإنسانية في العصر الحاضر – رغم تطبيقه الكبير في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والأخلاقية، واعتبار تحقيقه الأولوية الأولى لحكم القانون – لا يزال محل خلاف بين المفكرين حول ماهيته وأبعاده. ومع ذلك، من مجموع البحوث التي حاولت تعريف المساواة، يُفهم أنها تشير إلى تساوي البشر وجودياً بغض النظر عن الخصائص الفردية، وبالتالي ضرورة المعاملة المتساوية معهم.

في التعاريف المقدّمت لمفهوم المساواة في أبعادها الفلسفية والحقوقية والاجتماعية-السياسية، يُؤكَّد على أن المساواة لا تعني تساوي البشر مطلقاً، بل تعني عدم تفوق أحد على آخر بسبب الذات، وعدم التمييز في التمتع بالحقوق الأساسية، وحماية متساوية من القانون، وتوزيع عادل للفرص والموارد والمناصب الاجتماعية، وتهيئة أرضية لتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية.

حق المساواة أو التساوي في البعد الحقوقي صُوِّر بصوريتين:

  1. التساوي أمام القانون؛ أي أن جميع البشر متساوون أمام القانون، ويُنفَّذ القانون في حقوقهم وواجباتهم دون أي امتياز أو تمييز.
  2. التساوي القانوني؛ أي أن جميع البشر – بغض النظر عن الخصائص الشخصية أو القومية أو التاريخية أو العرقية… – يملكون حقوقاً وواجبات متساوية.

التساوي أمام القانون مقبول مطلقاً لتوافقه مع مبادئ العدالة وعدم تعارضه مع الواقع. أما التساوي القانوني فليس مقبولاً مطلقاً؛ لأن الحقوق والواجبات المتساوية تكون في الظروف المتساوية، وبما أن البشر غالباً في ظروف غير متساوية أو لهم مواهب مختلفة، فطلب حقوق وواجبات متساوية يؤدي إلى الظلم. هذا المبدأ مقبول في كثير من النظم الحقوقية وحتى في إعلان حقوق الإنسان، حيث ينفي التساوي الحقوقي المطلق ويجعله مشروطاً بالظروف المتساوية.

بناءً على هذا المبدأ نفسه في التعاليم الحقوقية الإسلامية، وإن قُبل مبدأ التساوي أمام القانون بغض النظر عن الاختلافات البشرية، إلا أنه بسبب وجود تفاوتات خلقية، توجد حالات عدم مساواة في النظام الحقوقي الإسلامي، مثل عدم تساوي الرجل والمرأة في الميراث…

يقول الباحثون إن قبول هذا المستوى من عدم المساواة الحقوقية في النظم الحقوقية – بما فيها النظام الإسلامي – يرجع إلى تحقيق العدالة؛ لأن المساواة في كل الأحوال تؤدي إلى انتهاك العدالة، كأن يأخذ شخصان في ظروف غير متساوية حقوقاً متساوية. بعبارة أخرى: العدالة تقتضي أن يتمتع الناس بحقوق متساوية إذا كانت ظروفهم متساوية، وإلا فكل بحسب استحقاقه.

حق المساواة الإنسانية في البعد السياسي يُعرَّف بأن جميع المواطنين – بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي أو الاقتصادي أو القومي أو الديني – يملكون فرصاً وحقوقاً متساوية في المشاركة في العمليات السياسية والقرارات العامة والوصول إلى السلطة. هذا الحق – الذي يُعدّ من المبادئ الأساسية للديمقراطية – يعني أن للبشر حق المشاركة المتساوي، وأصواتهم متساوية القيمة، ولهم فرصة متساوية في المنافسة على المناصب العامة، ويتمتعون بحريات مختلفة كحرية التعبير والتجمع وتأسيس الأحزاب أو الجمعيات.

في البعد الاجتماعي والاقتصادي، يركز حق المساواة الإنسانية على وجود فرص متساوية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ويهدف إلى منع تركز السلطة والثروة في أيدي فئة محدودة، وتوفير ظروف عادلة للحركة الاجتماعية. يشمل التساوي هنا توفير فرص متساوية في التعليم والصحة والتوظيف والدخل والترقي الوظيفي…

كما يُطبَّق حق المساواة الإنسانية في أبعاد أخرى، منها المساواة الثقافية التي تعترف بالهويات والثقافات المتنوعة في المجتمع وتحترم اللغات والتقاليد والمعتقدات المختلفة.

الباحثون الدينيون – عند دراسة أبعاد حق المساواة الإنسانية من منظور التعاليم الدينية استناداً إلى الآيات والروايات والسيرة – يرون أن كثيراً من معايير المساواة مقبول في الإسلام، لكن في بعض الحالات – للتقرب إلى مبدأ العدالة – فُصِّل في بعض أبعاد المساواة؛ فمثلاً في المساواة الحقوقية والمدنية في حق الحياة والأمان والملكية والحرية، يرون الجميع متساوين، ولم يشترطوا إلا في المسؤوليات أو التكاليف الشرعية وجود خصائص معينة للقائم بها؛ وفي تولي المناصب السياسية اشترطوا شروطاً كالعلم والعدالة والتقوى. وفي المجال الاقتصادي، قبل الإسلام الملكية الخاصة، وبدلاً من المساواة المطلقة، قبل مبدأ العدالة التوزيعية؛ ولذلك شرّع آليات مثل الخمس والزكاة والإنفاق وتحريم الربا لتلبية الحاجات الأساسية للفئات الضعيفة أيضاً.

بناءً على ما سلف، فإن حق المساواة الإنسانية – كأحد أركان الحقوق الأساسية للإنسان – ينبع من كرامته الذاتية، وهو أساس كثير من التحولات الحقوقية والسياسية والاجتماعية في العصر الحديث. هذا الحق – وإن لم يعنِ تساوي البشر مطلقاً – يؤكد على عدم تفوق أحد على آخر بسبب الذات، وعدم التمييز في التمتع بالحقوق الأساسية. أبعاده المتنوعة تشمل المجالات الحقوقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وفي كل منها الهدف هو رفع التمييز وخلق فرص متساوية. في التعاليم الإسلامية أيضاً قُبلت مبدأ المساواة، لكن لتحقيق العدالة فُصِّل في بعض أبعادها؛ بحيث إلى جانب قبول المساواة الأساسية، اشترطت شروط خاصة لبعض المناصب السياسية، ووُضعت فروق في الأحكام الاقتصادية والحقوقية؛ وبالتالي يمكن القول إن المساواة الإنسانية – سواء في الفكر الحديث أو في التعاليم الدينية – أساس للعدالة والحرية والديمقراطية.

Source: External Source