إشارة: إذا كان في تراث الشهيد مطهري عدة مواضيع لا يزال الجدل والنزاع دائرًا حولها منذ سنوات، فإن آراءه حول النظام الاقتصادي في الإسلام تُعدّ بلا شك واحدة من أبرزها. ومن أهم النقود الموجَّهة إلى هذه الآراء ميله – في نظر الناقدين – نحو الاقتصاد الاشتراكي. حول الآراء الاقتصادية لهذا الأستاذ الشهيد، أجرينا حوارًا مع حجة الإسلام والمسلمين الدكتور سعيد فراهاني فرد، رئيس كلية العلوم الاقتصادية والإدارية بجامعة قم. كاتب المقال الموسوم بـ«الفكر الاقتصادي عند الأستاذ مطهري» تناول في هذا الحوار الخاص الأبعاد المختلفة لفكر الشهيد مطهري الاقتصادي. المستشار السابق لوزير الاقتصاد أكد أن الشهيد مطهري يرى النظام الاقتصادي الإسلامي في مقابل النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي. وفيما يلي نص الحوار الخاص الذي أجراه موقع فقه معاصر مع عضو المجلس العلمي لمجموعة فقه الاقتصاد في معهد الدراسات الفقهية المعاصرة:
فقه معاصر: هل كان المرحوم مطهري قائلًا بوجود نظام اقتصادي إسلامي في مقابل الأنظمة الاقتصادية الأخرى؟
فراهاني فرد: الشهيد مطهري يعتقد أن الإسلام يمتلك نظامًا اقتصاديًا. وهو أحيانًا – كالشهيد الصدر – يستخدم مصطلح «مكتب» بدل «نظام». يرى أن في الإسلام مكتبًا اقتصاديًا يحدد اتجاه علم الاقتصاد ومساره، وعلم الاقتصاد بدوره يخدم النظام الاقتصادي ويحدد شكله في الظروف المختلفة.[١]
ولبيان هذه المسألة وفرق النظام الاقتصادي عن علم الاقتصاد يقول أولاً: بشكل عام، العلاقات الاقتصادية نوعان: علاقات تكوينية وطبيعية، وعلاقات اعتبارية وتعاقدية. العلاقات الطبيعية (التكوينية) هي سلسلة من العلاقات السببية والمعلولية التي تحدث حتماً في الشؤون الاقتصادية، مثل علاقات العرض والطلب، وتضخم النقود، والبطالة، والأزمات الاقتصادية… إلخ. أما العلاقات الاعتبارية في المجال الاقتصادي فترتبط بالقوانين المتعلقة بالحقوق والملكيات الشخصية وبالعلاقة بين المؤسسات الاقتصادية.
علم الاقتصاد يتولى بيان العلاقات الاقتصادية من النوع الأول، والمكتب الاقتصادي يسعى لبيان النوع الثاني. وبتعبير آخر، علم الاقتصاد هو علم بقوانين الطبيعة كما هي، والمكتب الاقتصادي يبين العلاقات الاقتصادية كما ينبغي أن تكون. في النظرة الأولى، الاقتصاد علم نظري، والخلاف فيه من قبيل الخلاف في العلوم التجريبية، وبالتالي يكون الخلاف فيه أقل. أما في النظرة الثانية فالاقتصاد مكتب ونظام، ومن هنا تدخل قضايا العدل والظلم والخير والشر واللائق وغير اللائق.
في الاقتصاد الإسلامي، اهتمامنا الأولي والأساسي هو بالمكتب الاقتصادي لا بعلم الاقتصاد. وبعبارة أخرى، موضوع بحثنا في الاقتصاد الإسلامي هو الاقتصاد البرامجي لا الاقتصاد العلمي. لذلك لا يوجد فيزياء إسلامية، لكن يوجد اقتصاد إسلامي.
فقه معاصر: ما هي أهم المقدمات والأسس التي اعتبرها للنظام الاقتصادي الإسلامي؟
فراهاني فرد: أهم المقدمات والأسس للنظام الاقتصادي من وجهة نظر الشهيد مطهري هي:
- الخدامحورية يرى الشهيد مطهري أن أهم فارق بين النظام الاقتصادي الإسلامي وبين المذاهب الاقتصادية الأخرى هو الاعتقاد بخالقية الله وربوبيته، والسعي لتربية البشر وهدايتهم في طريق العبادة والعبودية لله. النظام الرأسمالي الذي ينبع في الحقيقة من الفكر الدييستي (الطبيعي) يؤمن فقط بخالقية الله، وينفي التدبير الشامل الدائم لله، ويعتقد أن الله خلق العالم وفق نظام طبيعي ولا حاجة لتدخله وإدارته. أما الاشتراكيون فبناءً على الفكر المادي الذي اقتبسوه من باخ وخلطوه بمنطق ديالكتيك هيغل، لا يؤمنون بالله لا في مرحلة الخلق ولا في مرحلة التدبير، وإنما لديهم تحليلات مادية فقط للظواهر الاقتصادية. أما النظام الاقتصادي الإسلامي المستمد من الفكر التوحيدي الخالص للدين الإسلامي فله نظرة خاصة إلى الله والعالم والإنسان. في هذا النظام، الله تعالى الخالق والمبدع للعالم والإنسان، غني بالذات، كامل مطلق، بسيط من جميع الجهات، صفاته عين ذاته، العالم كله فعله، الكون بأسره مظهر إرادته ومشيئته، لا منافس لإرادته، وكل عامل من العوامل وكل إرادة ومشيئة إنما هي في طول مشيئته لا في عرضها.
- الجامعية والشمولية من مزايا الإسلام على الأديان الأخرى الجامعية والشمولية، وب تعبير القرآن نفسه «الوسطية» في هذا الدين. أحادية الجانب في قانون أو مذهب دليل على نسخه. العوامل المؤثرة والحاكمة على حياة الإنسان كثيرة، وغض الطرف عن أي منها يولد عدم التوازن تلقائيًا. أهم ركن في خلود الدين هو الاهتمام بجميع الجوانب المادية والروحية والفردية والاجتماعية.
- الحرية الاقتصادية من أهم الأسس التي شدد عليها الشهيد مطهري الحرية الاقتصادية. يبين رأي النظام الرأسمالي والاشتراكي في الحرية، ومصدر الحرية عند هذه المذاهب، وفرق نظرة الإسلام عن غيره من المذاهب. يرى أن تفسير الآراء المختلفة حول الحرية الاقتصادية ناشئ من طريقة نظرها إلى مسألة (أصالة الفرد أو أصالة المجتمع). المذاهب الليبرالية بسبب اهتمامها بمصالح الأفراد تعطي للفرد أقصى الحرية، والمذاهب الماركسية بسبب اعتبارها مصالح المجتمع أصيلاً تحدّ كثيرًا من حرية الأفراد.
الإسلام مع كونه دينًا اجتماعيًا يفكر في المجتمع ويحمّل الفرد مسؤولية المجتمع، فإنه لا يهمل حقوق الفرد وحريته. الفرد في الإسلام له حقوق – سياسية واقتصادية وقضائية واجتماعية. سياسيًا: حق الشورى وحق الانتخاب، واقتصاديًا: حق الملكية على محصول عمله، وحق المعاوضة والمبادلة والصدقة والوقف والإجارة والمزارعة والمضاربة وغيرها في ممتلكاته الشرعية، وقضائيًا: حق رفع الدعوى واستيفاء الحق وحق الشهادة، واجتماعيًا: حق اختيار المهنة والسكن والتخصص الدراسي وغير ذلك، وعائليًا: حق اختيار الزوج.
وفي الوقت نفسه، يرى أن حرية الإنسان في النظام الاقتصادي الإسلامي مختلفة عن غيره من المذاهب، ويقول: حرية الإنسان في الشريعة الإسلامية يجب أن تكون بحيث تساعده على الوصول إلى القرب الإلهي، ولهذا السبب تواجه هذه الحرية قيودًا. أهم قيد هو حفظ الإنسانية؛ أي يمكن أن يكون الإنسان حرًا من كل شيء وكل قيد إلا من قيد الإنسانية.
كما أن الأنشطة الاقتصادية للإنسان مقيدة بقيود. بعض هذه القيود حددها الشرع بشكل عام وثابت، فمثلاً لا يجوز للإنسان أن ينتج أي سلعة – ولو كانت مضرة لمصالح المجتمع – فقط لأنه يملك عوامل الإنتاج، ولا أن يستهلك ما يشاء وكم يشاء. تحريم أنشطة مثل الربا والاحتكار والمعاملات الغررية والإسراف والترف إنما جاء لهذا الغرض.
وبعض القيود الأخرى أُوكلت إلى الدولة، وأُعطيت الإذن لها عند الضرورة – من أجل تأمين مصالح المسلمين – أن تحد من بعض حريات الإنسان.
- العدالة الاجتماعية – الاقتصادية[٢] من أسس النظام الاقتصادي الإسلامي عند الشهيد مطهري إقامة العدالة الشاملة في جميع أبعادها، ومنها العدالة الاقتصادية. أصالة العدالة تعني أن كل استنباط للمسائل الاقتصادية وكل سياسات اقتصادية يجب أن تكون ذات توجه عادل. وفي كثير من الحالات تُعتبر العدالة هدف النظام الاقتصادي أيضًا.
في أهمية العدالة الاقتصادية يكفي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) يذكر سبب قبوله الخلافة بعد عثمان باختلال العدالة الاجتماعية (ومنها العدالة الاقتصادية) وانقسام الناس إلى طبقتين: شبعان يتركون الطعام من الشبع، وجائع يبيتون جوعى، فيقول: «لَوْلَا حَضْرَةُ الْحَاضِرِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ لَا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا».[٣]
كما يؤكد الإمام علي (عليه السلام) عند بيعة الناس له على حساسيته تجاه إقامة العدالة الاقتصادية وإلغاء التمييزات غير المشروعة.
دولة قوية وناظرة النظام الإسلامي مع أنه يعتبر الفاعلين الاقتصاديين أحرارًا ضمن حدود الشرع، إلا أنه – بخلاف النظام الرأسمالي – يؤمن بدولة قوية تمتلك موارد مالية وفيرة. ومع ذلك فإن دور الدولة هو بشكل أساسي وضع السياسات والإشراف على الأنشطة الاقتصادية للناس، وتقوم بالتصدي المباشر في حالات خاصة فقط. للدولة دور كبير في توزيع الدخل والثروة بصورة عادلة في المجتمع، وفي رفع الفقر وتقليل التفاوت والفجوة الطبقية ومنع المضاربة والسوق السوداء… إلخ.
شعبية الاقتصاد أولى اهتمامًا كبيرًا بدور الشعب في الاقتصاد، ويعتقد أن للشعب دورًا أساسيًا في الإنتاج والتوزيع وسائر الأنشطة الاقتصادية.
فقه معاصر: ما هي الآراء الخاصة له في علاقة الاقتصاد الإسلامي وفقه الاقتصاد؟
فراهاني فرد: كما ذكر سابقًا، يفرق بين المكتب والعلم في الاقتصاد الإسلامي، ويعتقد أن الإسلام يهدف إلى بيان المكتب والنظام الاقتصادي الإسلامي لا العلم.[٤] يقول: للإسلام رباطان بالاقتصاد: رباط مباشر من خلال مجموعة تشريعات اقتصادية حول الملكية والمعاملات والضرائب… إلخ، ورباط غير مباشر من خلال الأخلاق مثل الأمر بالأمانة والعدل والإحسان، والنهي عن السرقة والخيانة والرشوة.[٥] يرى أن المكتب الاقتصادي في الإسلام هو الذي يحدد اتجاه علم الاقتصاد ومساره، وعلم الاقتصاد يخدم النظام الاقتصادي ويحدد شكله في الظروف المختلفة.
كما أنه في فقه الاقتصاد يؤمن بفقه نظامي، وله آراء مختلفة في مواضيع مثل النقود والبنوك والتأمين والضرائب والأنفال وصلاحيات الحكومة الاقتصادية.
فقه معاصر: هل كان له رأي خاص في منهج استنباط الأحكام الاقتصادية؟
فراهاني فرد: نعم، يرى أن الكليات الإسلامية رُتبت بحيث تكون قابلة للاجتهاد. الاجتهاد يعني كشف الأحكام وتطبيق المبادئ العامة الثابتة على الجزئيات المتغيرة. الاجتهاد الحقيقي هو المحرك للإسلام، يمنحه الحركة دون أن يكون نسخًا أو تبديلاً لحكم الله، دون أن يصبح حلال حرامًا أو حرام حلالاً: «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة».[٦]
وفي موضع آخر يقول: عدم نهاية مصادر الدين واعتبار العقل من مصادره الإسلامية جعل الاجتهاد الحقيقي أيسر، وهذا المبدأ يسهل رسم النظام الاقتصادي الإسلامي.[٧]
الشهيد مطهري يؤمن بالاستنباط في إطار فقه النظام، ومع احترامه لفتاوى فقهاء العالم الإسلامي، لا يراها كافية، كما أن الفقهاء يقصرون الاستنباط التقليدي على استنباط الأحكام فقط، لكن الإسلام عنده لا يقتصر على الأحكام الفقهية بل يشمل المعارف والأخلاق والاجتماعيات أيضًا.
من النقاط البارزة في استنباطاته الفقهية:
- دور الزمان والمكان في الفقه؛ يعتقد أن الإسلام يمتلك أصولاً ثابتة أبدية تشمل كل زمان ومكان، وفي الوقت نفسه أحكامًا متغيرة تتغير حسب الزمان والمكان.
- الاهتمام بمقاصد الشريعة؛ يرى أن لكل حكم غاية، وفهم هذه الغاية يمكن أن يؤثر في استنباط أحكام جديدة.
[١] مرتضى مطهري، نظام اقتصادي إسلام، ص ٤١٤ – ٤٢٣. [٢] في كلام الأستاذ يُتحدث غالبًا عن العدالة الاجتماعية، لكن أمثلته تنصب على العدالة الاقتصادية، وعلى كل حال فالعدالة الاقتصادية من أبعاد العدالة الاجتماعية بمعناها الأعم. [٣] نهج البلاغة، ترجمة شهيدي، الخطبة ٣ (الشقشقية). [٤] المصدر نفسه، ص ٤١٤ – ٤٢٣. [٥] المصدر نفسه، ج ٢٠، ص ٤٠٢. [٦] الكليني، الكافي، ج١، ص٥٨. [٧] م.آ. ج ٣، ص ١٩٧؛ خاتمية، ص ١٣٩.
