إشارة: في هذه الجلسة، طرح الدكتور سيد حسين حسيني، عضو الهيئة العلمية لمركز دراسات العلوم الإنسانية والثقافية، نقدًا لطريقة صياغة المسألة، مؤكدًا على ضرورة التحليل المفاهيمي، والتمييز الدقيق بين مفاهيم “المعارف”، “الاعتقاد”، و”الثقافة”، والابتعاد عن التبسيط في القضايا الثقافية. كما قدم الدكتور عبد المجيد مبلغي نقدًا معرفيًا، مشيرًا إلى وجود نوع من الموضوعية وغياب الترتيب المنطقي في الإجابات المقدمة.
نظم مركز دراسات الفقه المعاصر، بالتعاون مع مكتب تطوير وتمكين العلوم الإسلامية التابع لمؤسسة التبليغ الإسلامي، الجلسة التاسعة والخمسون من سلسلة الجلسات المتخصصة “أيام الأحد المنهجية” للدورة الخريفية، تحت عنوان “المتطلبات المنهجية لتحويل المعارف الإسلامية إلى ثقافة عامة: تحليل منهجي لصيغة المسألة”.
عُقدت هذه الجلسة المتخصصة يوم الأحد ٦ مهرماه ١٤٠٤ هـ.ش (٢٧ سبتمبر ٢٠٢٥ م)، بحضور ومشاركة الباحثين والمهتمين بشكل حضوري وعبر الإنترنت، وتناولت بالتفصيل والعمق العلمي منهج التحليل المنهجي لصيغة المسألة المتعلقة بنقل المعارف الإسلامية إلى الثقافة العامة للمجتمع.
في بداية الجلسة، أشار الحجة الإسلام والمسلمين حقاني فضل، مدير دائرة المعارف للفقه المعاصر، إلى أهمية المنهجية كشرط أساسي لأي نشاط علمي وبحثي، مؤكدًا على ضرورة التخطيط العلمي والهادف لتحويل المعارف والقضايا الفقهية إلى ثقافة عامة.
وأضاف: «إن العصر الحديث قد أوجد تعقيدات خاصة في العلاقة بين الدين والحياة الاجتماعية للإنسان. المناهج التقليدية لم تعد كافية لتلبية هذه الاحتياجات، ومن الضروري إجراء دراسات منهجية بشكل أساسي».
ثم تحدث الحجة الإسلام والمسلمين الدكتور سيد حسين حسيني، عضو الهيئة العلمية لمركز دراسات العلوم الإنسانية والثقافية، كمقدم لهذه الجلسة العلمية، معبرًا عن تقديره للقائمين على تنظيم الجلسة، ومشيرًا إلى أهمية اختيار موضوع المنهجية في الدراسات الفقهية، وقال إن النظر إلى المنهج كشرط مسبق لأي نشاط علمي وعملي يعكس ذكاء المنظمين.
أوضح عضو الهيئة العلمية لمركز دراسات العلوم الإنسانية والثقافية أنه ينوي، في وقت محدود، تقديم صورة عامة عن المسألة، ونقد صيغتها، ثم اقتراح صيغة جديدة للمسألة.
اعتبر الدكتور حسيني المنهجية، خاصة في العلاقة بين المعارف الإسلامية والثقافة الاجتماعية، موضوعًا معقدًا وواسعًا، وطرح ستة قضايا أساسية حول المتطلبات المنهجية لتناول المسألة:
-
التحليل المنهجي لصيغة المسألة يسبق حلها؛ بمعنى أنه ما لم تُحدد المسألة بدقة، فقد ينحرف أي جواب عن الصواب.
-
تحديد نوع المسألة (فلسفية، ثقافية، فقهية، إلخ)؛ أشار الدكتور حسيني إلى أن المسألة ذات طبيعة فلسفية وليست فقهية فقط، وتتطلب التخصص في فلسفة العلم ودراسات الثقافة.
-
منهج تحليل المفهوم كنقطة بداية للإجابة؛ اعتبر هذا المنهج نقطة انطلاق جيدة، مشيرًا إلى استخدامه في المصادر الفلسفية والمبادئ العلمية.
-
تجنب تبسيط القضايا الفلسفية؛ حذر عضو الهيئة العلمية لمركز دراسات العلوم الإنسانية والثقافية من حل المسألة المعقدة بتقليص أبعادها بشكل سطحي.
-
ضرورة الحلول العميقة والشاملة ومتعددة التخصصات؛ المسألة متعددة الأبعاد ولا يمكن تناولها من زاوية واحدة.
-
التداخل بين الفلسفة ودراسات الثقافة في منهجية المسألة؛ نظرًا للطبيعة الفلسفية والثقافية المتشابكة للموضوع، يجب أن يترافق أي منهج فلسفي مع منظور دراسات الثقافة.
بعد بسط المباحث المنهجية، انتقل الحجة الإسلام والمسلمين حسيني إلى تحليل السؤال نفسه وتجسيد المعارف والثقافة. ومن النقاط الرئيسية التي طُرحت في هذا القسم:
-
مجال المعارف الإسلامية واسع جدًا ويشمل الفقه والكلام والأخلاق والعرفان وحتى بعض العلوم الإنسانية. يجب توضيح أي مجال وأي قضية مُقصودة بالمعارف.
-
إذا كان المقصود هو “الاعتقاد الديني”، فيجب التمييز بين “الاعتقاد” و”الثقافة”؛ لأن الاعتقاد له جانب ذهني أقوى، بينما الثقافة لها جانب خارجي أكثر.
-
ضرورة التمييز المفاهيمي بين مجالات الفهم والاعتقاد والثقافة الاجتماعية؛ أكد على التمييز بين القوى الفكرية والعملية والقلبية في الإنسان لتوضيح مكانة الثقافة الاجتماعية.
-
التأكيد على أن ليس كل التعاليم الدينية قابلة للتحويل إلى ثقافة عامة، سواء من حيث القبول الاجتماعي أو التوافق المبدئي.
-
الثقافة لا يمكن تعريفها بمعزل عن غيرها، ولا يمكن فصلها عن الهياكل الاجتماعية الأخرى؛ فهي ركن أو ضلع مهم من الهيكل الاجتماعي، تتفاعل مع السياسة والاقتصاد والمؤسسات والهياكل الاجتماعية.
-
خصائص الثقافة مثل الحياة والنمو والتدهور، والتدرج والتعقيد والتعدد، تتطلب التخلي عن المناهج الجزئية والنظر إلى الثقافة والتعاليم بنظرة كلية.
أكد في هذا القسم أنه لا يمكن التركيز على حكم أو قضية واحدة فقط لتحويل المعارف إلى ثقافة، بل يجب الانتباه إلى العلاقة بين التعاليم ونظام الدين ككل. كما اعتبر الظاهرية الدينية إحدى الآفات الكبرى في تحليل القضايا الاجتماعية، وطرح ضرورة تصميم أنماط هيكلية ثقافية.
في القسم النهائي، قدم الحجة الإسلام والمسلمين الدكتور سيد حسين حسيني، بعد إعادة النظر في صيغة المسألة، اقتراحات عامة للمواجهة الاستراتيجية، مشددًا على أنه مع تحديد المسألة بشكل أدق، يجب تهيئة إجابة خاصة بتلك الصيغة:
-
استهداف العقل الاجتماعي من خلال الحجة والحوار العقلاني والإقناع الفكري، مع التأكيد على أن نقطة ثقل التغيير الثقافي هي في التفكير وليس فقط في الشعور والعاطفة.
-
ترويج تيار النقد العلمي والعام في المجتمع: قدم عضو الهيئة العلمية لمركز دراسات العلوم الإنسانية والثقافية النقد كأداة لتعزيز القدرة على الدفاع العقلاني والمشاركة الفكرية.
-
تهيئة الأجواء وصناعة الثقافة بشكل غير مباشر باستخدام أركان المجتمع الأخرى (السياسة، الاقتصاد، المؤسسات)؛ لا ينبغي تجاهل تأثير الهياكل على الثقافة.
-
الانتباه إلى تحديات الحضارة المعاصرة والتحرك نحو حضارة إسلامية جديدة: أشار الحجة الإسلام والمسلمين حسيني إلى أن الثقافة تتشكل في سياق الحضارة، وإصلاح الثقافة دون إصلاح حضاري أمر صعب.
-
الابتكار في العلوم الاجتماعية الحديثة والتنظير حول الثقافة: بحسب الدكتور حسيني، فإن غياب النظريات المدونة في دراسات الثقافة الدينية هو أحد نقاط الضعف الحالية التي يجب معالجتها.
-
الانتباه إلى العلاقة بين التعاليم وتجسيدها في العلوم المتخصصة والثقافة الخاصة بالمجتمع: النقطة الرئيسية التي أُكد عليها في صياغة المسألة هي أن كل تعليم يكتسب معنى في سياق علم متخصص وثقافة معينة، والنقل المجرد له إلى ثقافة أخرى قد يؤدي إلى مقاومة.
أكد عضو الهيئة العلمية لمركز دراسات العلوم الإنسانية والثقافية، في الختام، أن صيغة المسألة “تحويل المعارف إلى ثقافة عامة” غير دقيقة، ومن الأفضل صياغتها بشكل أكثر دقة مثل: «منهج تحويل القضايا المؤكدة في علم متخصص إلى رمز تفكير اجتماعي في ثقافة محددة». وبحسب تعبيره، لا ينبغي افتراض أن كل أمر نظري يتحول إلى أمر عملي، بل يجب إظهار كيفية اختيار عملية عقلانية ومنظمة وثقافية للنقل.
أوضح الدكتور حسيني أن العديد من التعاليم الدينية، خاصة تلك التي تشكلت في إطار نظري لعلم معين، لا يمكن نقلها بسهولة إلى الثقافة العامة، لأن المجتمع المعاصر متأثر بثقافة مختلفة ويبدي مقاومة. وكانت النقاط الرئيسية في كلامه تشمل نقد العلاقة بين العلم والسلطة، وارتباط الثقافة بالهياكل العلمية والحضارية المحيطة، وأهمية تجسيد التعاليم في النسيج الثقافي.
في بداية الجمع والتعليق، شكر أمين الجلسة الدكتور حسيني على عرضه المنظم والغني بالمحتوى، وأشار إلى أن الدكتور حسيني حاول تحليل المسألة بعمق، مؤكدًا أن مفهوم “المعارف” عام جدًا ويجب تقسيمه إلى أجزاء أصغر، وأنه بدلاً من “تحويل المعارف”، يجب التركيز على تحويل الاعتقاد الديني إلى ثقافة عامة، لأن مصطلح “المعارف” غير دقيق في هذا السياق.
كما أشار أمين الجلسة إلى أن الدكتور حسيني أخذ في الاعتبار نقد الجلسات السابقة وانتقد الآراء التي تحول الأمر النظري إلى أمر عملي بسهولة.
أعرب أمين الجلسة عن تقديره للدكتور حسيني، واعتبر أبرز ميزة لهذه الجلسة هي تناولها لطبيعة صيغة المسألة، وقال إن المسألة لا ينبغي أن تُعتبر فقهية فقط، بل يجب تناولها من منظور فلسفي وديني وثقافي لتُرى أبعاد الثقافة المختلفة فيها. وبحسب قوله، تحويل المعارف الدينية العامة إلى اعتقاد ديني ثم إلى ثقافة عامة يتطلب التفكير والدقة، ولا ينبغي أن يظل في إطار التعميم.
قدم الدكتور عبد المجيد مبلغي، عضو الهيئة العلمية لمركز دراسات العلوم الإنسانية والثقافية، نقدًا ومراجعة شاملة ومتخصصة لعرض الحجة الإسلام والمسلمين الدكتور سيد حسين حسيني.
بدأ الدكتور مبلغي بالتقدير للمنظمين والمقدم، مشيرًا إلى أهمية الجلسات البحثية في مجال المنهجية ودراسات المنهج، وأوضح أن عرض الدكتور حسيني كان منظمًا وغنيًا بالنقاط، وإن كان النص المقدم لا يعكس إلا جزءًا صغيرًا من جهوده، ويتطلب فهمه العميق دقة وانتباهًا خاصين.
أكد أن النقطة البارزة في هذا العرض هي المنهج الفلسفي-العلمي والمعرفي الذي تبناه الدكتور حسيني، والذي حاول تحليل صيغة المسألة بدقة عالية وتجنب الأحكام المسبقة البسيطة والإجابات السطحية.
ثم انتقل الدكتور مبلغي إلى عرض وجهة نظره، مشيرًا إلى غياب منهج “المعرفة النقدية” في التحليل المقدم. وبحسب قوله، يظهر في النص نوع من “الموضوعية الخفية” التي تفترض إمكانية الوصول إلى إجابات عملية ومؤكدة في مجال المعارف الدينية، بينما تقلل المعرفة النقدية من هذا التأكيد وتظهر أن الوصول إلى مثل هذه الإجابات دائمًا معقد وغير مضمون بشكل كامل.
كما أشار إلى مفهوم “الهندسة الثقافية”، مضيفًا أن الدكتور حسيني يبدو أنه يحتفظ بمسافة من هذا المفهوم ويعتقد أن الثقافة هي مجال تشكل المعنى وليس مجال الإدارة والتصميم من الأعلى. هذا المنظور، الذي يفترض وجود “جوهر ثابت ومؤكد” في المعارف الإسلامية مع تعقيد في طريق الوصول إليه، يتعارض مع الرؤية التي ترى الثقافة في قلب التفاعلات الاجتماعية والهوياتية.
ثم تناول عضو الهيئة العلمية لمركز دراسات العلوم الإنسانية والثقافية “المنهج الDhّي” الموجود في تحليل الدكتور حسيني، موضحًا أن التركيز المفرط على التفاصيل والنظر الجزئي قد يحول دون فهمنا للمسألة بشكل كلي وشامل. وبحسب قوله، غالبًا ما تُطرح القضايا الاجتماعية والثقافية على مستوى كلي وواسع، وتتطلب منهجًا شاملًا يتجاوز الإجابات الجزئية. وذكر مثال الحجاب وأسلوب الحياة في المجتمع كرمز لضرورة هذا المنهج الكلي.
وفي الختام، أشار الدكتور مبلغي إلى الإجابات المقترحة من الدكتور حسيني، والتي تضمنت الإقناع العقلاني، والحوار الفكري، والنقد العلمي والعام، وتهيئة الأجواء الثقافية، والانتباه إلى متطلبات الحضارة المعاصرة. ورأى أن هذه المكونات تبدو فاقدة لترتيب منطقي وتدريجي، وأحيانًا غير مترابطة، وتحتاج إلى توضيح وتصنيف أكثر دقة.
أعرب الدكتور مبلغي عن رغبته في استمرار هذه النقاشات والحوارات التفاعلية، مؤكدًا أن مثل هذه الجلسات يجب أن تكون أساسًا لتفكير أعمق وحلول أكثر عملية في مجال تحويل المعارف الإسلامية إلى ثقافة عامة.
في تتمة الجلسة، طرح الحاضرون أسئلتهم وآراءهم. وأعرب الحجة الإسلام والمسلمين مصطفى دري، نائب رئيس مركز دراسات الفقه المعاصر، عن شكره لعرض الدكتور حسيني المنسجم، وطرح أسئلته، أولها: من المسؤول عن تطبيق المعارف الإسلامية؟ هل يجب أن يُتابع هذا الأمر كتخصص مستقل أم كمجال دراسي متعدد التخصصات؟ وثانيًا، هل يجب اعتبار العلاقات الاجتماعية والثقافية القائمة كأمر ثابت مسبقًا، أم أن جزءًا من نشاط تحويل المعارف إلى ثقافة يتضمن تغيير هذه العلاقات؟ وأشار إلى تاريخ الإسلام والثقافات المختلفة، مقدمًا أمثلة عن جهود المعارف الدينية لتغيير العلاقات الاجتماعية مثل علاقة العبد والمولى، وأكد أن بعض المدارس الفكرية تعمل بنشاط لتغيير علاقات المجتمع.
رد الدكتور حسيني على النقد والآراء، معبرًا عن تقديره للمشاركات الفكرية، وقال إن الموضوع واسع ومعقد للغاية ويتطلب جلسات متعددة وتفكيرًا مشتركًا للوصول إلى توازن مشترك بين الآراء. وأكد أن المسألة المطروحة (تحويل المعارف الدينية إلى ثقافة عامة) ليست مسألة علمية يمكن تقديم حل عام وشامل لها، وأن القضايا المتعلقة بالصلاة أو الحجاب أو الزكاة في كل مجتمع تختلف حسب الظروف والخصائص الخاصة به، ولا ينبغي توقع حل موحد.
وأوضح أن تقسيم المسألة إلى أبعاد أصغر لتسهيل البحث العلمي لا يعني التخلي عن النظرة الكلية، بل على العكس، يجب أن تكون النظريات الثقافية الكلية أساس العمل. كما أشار إلى أن تقسيم المسألة لا يعني الإثباتية أو الموضوعية المجردة، بل هو أداة لتحليل أكثر دقة.
أوضح الدكتور حسيني أن جمهور الثقافة هو عقل الإنسان، ويمكن استخدام وسائل إقناع مختلفة والتفكير النقدي لإقناعه، وليس بالضرورة أن يقتصر على الاستدلالات الفلسفية المعقدة. وأشار إلى أنشطة مثل “الفلسفة للأطفال” التي تهدف إلى تبسيط المباحث المعقدة وفهمها بشكل أفضل للجيل الجديد.
وأكد الدكتور حسيني، مع قبوله لدور العواطف في اتخاذ القرارات، أن الهدف في مجال الثقافة هو الإقناع العقلي، وأن دور الاستدلال والمنطق لا يُنفى بأي حال، بل هو مكمل لعوامل أخرى مثل القيم والعواطف.
وفي الختام، أكد الدكتور حسيني أن الثقافة أمر متكثر ومرتبط بالزمان وخالٍ من القطعية المطلقة، وبالتالي فإن توقع تحديد حلول نهائية ومؤكدة للقضايا الثقافية غير واقعي. كما أشار إلى أن هذه المباحث تتطلب بحوثًا عميقة ومتعددة الجوانب، ولا ينبغي تقييمها بأحكام مبسطة. وفي النهاية، عبر عن تقديره لحضور الحاضرين وأسئلتهم، وأعرب عن أمله في أن يكون هذا الحوار بداية مسار علمي وفكري لمواجهة جادة مع مسألة تحويل المعارف إلى ثقافة اجتماعية.

