الدكتور صادق قديمي، في حوار خاص مع الفقه المعاصر

فقه الحكم في الفضاء الافتراضي/13

يمكن لصياغة السياسات والحوكمة في الفضاء الافتراضي استنادًا إلى المبادئ والقواعد الفقهية أن تساهم في خلق فضاء صحي وآآمن وعادل. كما أن المرونة والقدرة على التكيف مع الظروف الجديدة تعد من المزايا الأخرى لمساهمة الفقه في صياغة السياسات في مجال الحوكمة في الفضاء الافتراضي.

إشارة: تُعد صياغة السياسات المتعلقة بالفضاء الافتراضي من التحديات المهمة في بلادنا، وبالطبع في العديد من دول العالم. وفي هذا السياق، وبما أن بلادنا إسلامية وتعتمد على علم الفقه، فإنه من الضروري تنظيم السياسات بما يتماشى أو يتوافق مع الأحكام الفقهية. ناقشنا هذا الموضوع مع الدكتور صادق قديمي، حاصل على درجة الدكتوراه في الفقه ومبادئ الحقوق الإسلامية وأستاذ في الحوزة العلمية للأخوات، والذي لديه اهتمام بصياغة السياسات والفضاء الافتراضي. إن معرفته بعلم الفقه وأبعاد صياغة السياسات المختلفة في الفضاء الافتراضي أثمرت عن حوار جدير بالقراءة.

الفقه المعاصر: ما المقصود بصياغة السياسات في الفضاء الافتراضي، وما هي متطلباتها وأبعادها؟

قديمي: صياغة السياسات في الفضاء الافتراضي تشير إلى مجموعة القرارات والقوانين والاستراتيجيات التي تتخذها الحكومة والمؤسسات العامة وغيرها من المنظمات لإدارة وتنظيم ومراقبة الأنشطة والمحتوى في الفضاء الافتراضي. وهذه السياسات لها متطلبات وأبعاد، وأشير إلى بعضها بشكل موجز:

  • حماية حقوق المستخدمين؛
  • توفير الوصول العادل أو العدالة من حيث الإمكانيات والبنية التحتية؛
  • تنظيم المحتوى؛
  • التدريب والتطوير؛
  • الابتكار والإبداع والتعليم وزيادة المعرفة والتوعية.

كل من هذه النقاط لها مكونات متنوعة؛ فعلى سبيل المثال، حماية حقوق المستخدمين تشمل قضايا مثل الخصوصية، أمن المعلومات، وحرية التعبير وما شابه. أما توفير الإمكانيات العادلة فيعني إنشاء بنية تحتية عادلة للوصول للجميع وتقليل الفجوة الطبقية في هذا المجال. وتنظيم المحتوى يشمل منع نشر أو مواجهة نشر المعلومات المغلوطة أو غير المناسبة أو المخالفة، ومن الناحية الإيجابية، يتطلب دعم المحتويات الإبداعية والثقافية والمناسبة. أما الترويج والتطوير والابتكار والإبداع فيشمل دعم الشركات الناشئة والأعمال الرقمية والتعليم وتشجيع تطوير التقنيات الحديثة.

أما أبعاد صياغة السياسات في الفضاء الافتراضي فتشمل أبعادًا مختلفة، بما في ذلك البعد القانوني، البعد الاقتصادي، البعد الاجتماعي، البعد الأمني، والبعد الدولي.

كل بعد من هذه الأبعاد له مكونات مختلفة؛ فعلى سبيل المثال، في البعد القانوني، هناك قضية صياغة القوانين واللوائح ذات الصلة، التي تشمل حماية خصوصية البيانات وحقوق النشر وما شابه. وفي البعد الاقتصادي، تُثار قضايا مثل دعم الأعمال الرقمية والتقنيات الحديثة. وفي البعد الاجتماعي، يتم التعامل مع قضايا مثل تأثير السياسات على السلوك الاجتماعي والثقافي للمستخدمين في الفضاء الافتراضي أو دور الفضاء الافتراضي في التغيرات والتحولات الثقافية والاجتماعية. أما البعد الأمني، الذي يؤثر في كثير من الحالات على صياغة السياسات، فيشمل تدابير مثل إنشاء إجراءات أمنية لحماية البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات ومنع الهجمات السيبرانية أو التعاون الدولي لمواجهة التهديدات الأمنية في الفضاء الافتراضي. ويشمل البعد الدولي أمورًا مثل المعايير والاتفاقيات الدولية في مجال الفضاء الافتراضي والتعاون مع الدول الأخرى لإدارة التحديات العالمية مثل الهجمات السيبرانية.

بشكل عام، يمكن القول إن صياغة السياسات في الفضاء الافتراضي هي عملية متعددة الأبعاد تتطلب تعاونًا بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع. لذا، يجب أن تكون القوانين المصادق عليها مرنة وقابلة للتكيف مع الظروف الحالية والمطلوبة.

الفقه المعاصر: ما هي متطلبات ومعايير النجاح في صياغة السياسات في الفضاء الافتراضي؟

قديمي: أولاً، بالنسبة للمتطلبات، أشير إلى بعض النقاط:

أ. التعليم والتوعية؛ مثل توفير برامج تعليمية لزيادة وعي المستخدمين بحقوقهم ومسؤولياتهم في الفضاء الافتراضي، وهي حلقة مفقودة حقًا لدينا ومهملة، أو رفع المهارات الفنية والرقمية بين مختلف فئات المجتمع.

ب. المشاركة والتشاور مع جميع الأطراف المعنية بطريقة ما؛

ج. الشفافية والمسؤولية؛ مثل الشفافية في العمليات. إحدى المشكلات التي يعاني منها مجتمعنا بشدة هي هذه القضية. نتيجة عدم الشفافية هي أولاً أن السياسات تفتقر إلى الشفافية، وثانيًا أن إعلام السياسات ليس واضحًا وصريحًا. وهذا يؤدي في كثير من الأحيان إلى ردود فعل سلبية.

إلى جانب الشفافية، هناك قضية آليات المسؤولية؛ أي الآليات المصممة للرد على الانتهاكات وخرق حقوق المستخدمين، وهي أيضًا تُهمل تمامًا، بحيث يتم انتهاك حقوق المستخدمين في كثير من الحالات، ولكن لا توجد آلية سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي أو الوطني للتعامل مع الانتهاكات.

د. تطوير البنية التحتية؛ مثل تطوير بنية الإنترنت الوطني. قضية تطوير البنية التحتية تعني النقاش حول الإنترنت الوطني أو ما شابه من قضايا تتعلق بتطوير البنية التحتية. إن القصور في تطوير البنية التحتية يؤدي إلى أننا، في فضاء يمكن القول إنه عالم افتراضي وحقيقة لا يمكن إنكارها، لا نكون في موقف قوة، بل نكون منفعلين وفي كثير من الحالات تحت الهيمنة. حماية البيانات وتوفير بنية تحتية مناسبة للوصول السريع والآمن إلى الإنترنت والفضاء الافتراضي هي من بين مكوناتها.

هـ. التوازن بين الحقوق والمسؤوليات؛ وهو أمر لا يحتاج إلى تفسير.

أما بالنسبة لمعايير النجاح في صياغة السياسات للفضاء الافتراضي، فيمكن ذكر ما يلي:

  • تحسين جودة القوانين واللوائح؛
  • إمكانية الوصول؛
  • الابتكار والتطوير؛
  • الاستجابة للتحديات؛
  • المراقبة والتقييم والتفاعل والمشاركة.

هذه هي المعايير التي يمكن من خلالها تقييم نجاح أو فشل صياغة السياسات في مجال الفضاء الافتراضي.

الفقه المعاصر: هل يمتلك علم الفقه أساسًا الأدوات والقدرات اللازمة لتنظيم السياسات، أم أنه يؤثر فقط في المجال القانوني وصياغة القوانين؟

قديمي: نعم، علم الفقه، كنظام فكري وعلمي يعتمد على المبادئ والقواعد، يمكنه أن يلعب دورًا فعالًا في تنظيم السياسات واتخاذ القرارات في الفضاء الافتراضي. هذا العلم لديه قدرات تمكنه من لعب دور نشط في هذا المجال. إحدى هذه القدرات هي مبادئه وأسسه، مثل العدالة، الإنصاف، احترام حقوق الآخرين، الحفاظ على كرامة الإنسان، وغيرها.

إضافة إلى ذلك، كونه علمًا ديناميكيًا قادرًا على الاستجابة لاحتياجات المجتمع اليوم، يمكنه الإجابة على القضايا الجديدة واقتراح سياسات مناسبة لها. لكن هذا الأمر يتطلب أن يُعتبر الفقه في سياق صياغة السياسات نشطًا وفي حالة فعالة، وليس منفعلاً؛ للأسف، في القوانين وصياغة السياسات الحالية، يتخذ الفقه دور المراقب أكثر من كونه حاضرًا، مما يؤدي إلى عدم الاستفادة الكاملة من القدرات التي يمتلكها علم الفقه.

إحدى الأدوات الأخرى التي يمكن القول إنها تُستخدم لصياغة السياسات هي الاجتهاد الفقهي الديناميكي والنشط والشامل، الذي لا يقتصر على الفقه أو قضايا معينة منه أو على الفقه القائم؛ بل بفضل ديناميكيته ومنطقيته واستدلاليته ومنهجيته وعلميته، يمكنه التدخل في أي فضاء والقيام بالاجتهاد والاستفادة منه، وهذا أيضًا مهمل للأسف.

كما أن القواعد الفقهية يمكن أن تساعد كثيرًا في هذا المجال، منها قاعدة لا ضرر، وقاعدة حفظ النظام، وقاعدة نفي السبيل، وقاعدة العدل والإنصاف، وغيرها.

أما طريقة تأثير الفقه في المجال القانوني وصياغة القوانين فتتم بأشكال مختلفة، منها صياغة القوانين وتنظيم الأنظمة والعلاقات الاجتماعية.

في النهاية، يمكن القول إن علم الفقه ليس فقط قادرًا على التأثير في المجال القانوني وصياغة القوانين، بل يمتلك الأدوات والقدرات اللازمة لتنظيم السياسات، وبفضل المبادئ والقواعد التي يمتلكها، يمكن أن يكون مصدرًا غنيًا لصياغة السياسات ويساهم في تحسين جودة الحياة ويكون أساسًا وممهدًا لحياة طيبة.

الفقه المعاصر: هل صياغة السياسات هي عملية تعتمد على علم واحد، أم أنها يجب أن تتم بالمشاركة بين عدة علوم؟ وفي هذه الحالة، ما هو مكانة علم الفقه في صياغة السياسات في الفضاء الافتراضي؟

قديمي: كما ذكرت، صياغة السياسات تعني عملية تصميم وصياغة وتنفيذ القرارات والاستراتيجيات التي تهدف إلى حل القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مجال الفضاء الافتراضي. وهذه العملية تشمل عادةً تحليل البيانات والتقييمات وتوقع النتائج.

بناءً على هذا التعريف، من الواضح أن صياغة السياسات هي عملية متعددة التخصصات، وعلم واحد بمفرده لا يمكنه إدارة هذه العملية وإتمامها. بعض التخصصات والعلوم التي تُستخدم في هذا المجال تشمل: علم النفس، تكنولوجيا المعلومات، الحقوق، الاقتصاد، العلوم الاجتماعية، علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، الإدارة، وما شابه. هذا التنوع العلمي يساعد صانعي السياسات على اتخاذ قرارات أكثر شمولية والاستجابة لاحتياجات المجتمعات المختلفة ومنع النتائج والتداعيات غير المرغوب فيها.

لكن الجزء المهم والمحوري من السؤال هو مكانة علم الفقه في صياغة السياسات للفضاء الافتراضي. في رأيي، يمكن لعلم الفقه أن يلعب دورًا مهمًا في توفير الأسس لتحليل القضايا الجديدة، صياغة القوانين واللوائح، والمشاركة في اتخاذ القرارات المتعلقة بصياغة السياسات.

بعبارة أخرى، يمكن القول إن الفقه في صياغة السياسات للفضاء الافتراضي يمكن أن يكون له حضور نشط في مجالات مختلفة، بما في ذلك التمهيد، التطوير، الإدارة، وتوجيه الأنشطة، مما يجعل الأنشطة المستقبلية مبنية على أساس شرعي صحيح، كما يمكن أن يلعب دور التصحيح والتوجيه أو التأييد والتشجيع للسياسات والأنشطة السابقة.

الفقه المعاصر: من الناحية الفقهية، ما هي السياسات الموصى بها للحوكمة في الفضاء الافتراضي؟

قديمي: الفقه بالطبع له توصيات وتوجيهات للحوكمة في الفضاء الافتراضي وليس خاليًا من التوصيات، مثل:

  • ضرورة حماية أمن المعلومات والخصوصية؛
  • ضرورة تنظيم المحتوى؛
  • ضرورة ضمان حقوق المستخدمين؛
  • ضرورة تعزيز التعليم والتوعية؛
  • ضرورة تطوير البنية التحتية والتقنيات؛
  • ضرورة دعم الإبداع وريادة الأعمال؛
  • ضرورة الاهتمام بالأبعاد الدولية للمسألة.

يمكن القول إن هذه هي رؤوس التوصيات الفقهية للحوكمة في الفضاء الافتراضي. وقد أُشير إلى مكونات كل منها ضمن المواضيع السابقة.

بشكل عام، يمكن القول إن صياغة السياسات والحوكمة في الفضاء الافتراضي استنادًا إلى المبادئ والقواعد الفقهية يمكن أن تساهم في خلق فضاء صحي وآمن وعادل. كما أن المرونة والقدرة على التكيف مع الظروف الجديدة تعد من المزايا الأخرى لمساهمة الفقه في صياغة السياسات في مجال الحوكمة في الفضاء الافتراضي.

الفقه المعاصر: ما هي التحديات والأضرار المحتملة لتدخل علم الفقه في مجال صياغة السياسات في الفضاء الافتراضي؟ وماذا يجب فعله للتخلص من هذه التحديات والأضرار؟

قديمي: من الطبيعي أن الحضور النشط في مجال صياغة السياسات ليس خاليًا من التحديات؛ لكن بعض هذه التحديات هي تحديات حقيقية، وبعضها الآخر مجرد خلق للتحديات ولا أساس له من الواقع. قد لا أقبل شخصيًا ببعض هذه التحديات، لكن من باب المثال، أشير إليها.

أحد التحديات هو قضية التعارض مع الحريات الفردية. يعتقد البعض أن بعض الأحكام الفقهية قد تتعارض مع الحريات الفردية، وإن كنت أرى أن هذا ليس تحديًا حقيقيًا، بل نوع من خلق التحديات والتضخيم.

التحدي الآخر هو قضية الاختلافات الفقهية والتفسيرات المختلفة والآراء المتباينة في مسألة واحدة، مما قد يؤدي إلى التشتت في الهدف والثبات في السياسات. هذا الأمر مقبول إلى حد ما، لكنه قابل للحل.

من التحديات الأخرى، يمكن ذكر عدم التكيف مع التطورات السريعة للتكنولوجيا. يرى البعض أن الفقه لا يمتلك السرعة اللازمة للتكيف مع التطورات التكنولوجية السريعة، وهذا في حد ذاته مضر.

تحدٍ آخر هو الحد من الابتكار والإبداع؛ بمعنى أن الفقه يفرض قيودًا على الابتكار والإبداع في التكنولوجيا والأعمال الرقمية. هذا التحدي أيضًا يستحق التأمل والدراسة.

الحل المقترح لهذه التحديات هو تطوير الاجتهاد الديناميكي، وليس اجتهادًا يتعارض مع الحريات الفردية. الفقه الديناميكي، بفضل ديناميكيته، قادر على التكيف مع التطورات التكنولوجية. ولا يعارض الابتكارات والإبداعات المعقولة والمشروعة ولا يفرض عليها أي قيود.

أما بالنسبة للاختلافات الفقهية، فقد قدم العلماء حلولًا متنوعة، منها قضية ولاية الفقيه.

مسألة أخرى يجب الانتباه إليها هي أنه، على عكس القرون الأخيرة، يجب أن يكون الفقه رائدًا وليس تابعًا، وهذا التغيير يتطلب جهدًا وعملًا وإعادة نظر وإصلاحات جادة في التفكير الاجتهادي؛ وإلا فإن الفقه والتفكير الفقهي الحاليين لا يمكنهما أن يكونا رائدين وقائدين ومديرين للتغيرات الحالية في الفضاء الافتراضي على المستوى الوطني والدولي.

Source: External Source