إشارة: الزواج الثاني (تعدد الزوجات) من الموضوعات التي أثارت الجدل والاعتراض منذ بداية تشريعه في زمن نزول النصوص. فمن جهة، تقول النساء ومدافعات عن حقوق المرأة: لماذا شرّعتم مبرراً شرعياً لشهوات الرجال؟ ومن جهة أخرى، يجيب المؤيدون بأنه إلى جانب الأدلة الشرعية، لا يمكن إدارة حياة الأرامل إدارة واقعية وعقلانية بدون تعدد الزوجات. لكن في السنوات الأخيرة، تمسك معارضو جواز تعدد الزوجات بدليل جديد، فقالوا إن هذا العمل يخالف «المعاشرة بالمعروف»، واعتبره عنفاً ضد الزوجة. حجة الإسلام والمسلمين السيد محمود مدني بجستاني يرى أن هذا الكلام ليس علمياً ولا منطقياً. فبرأي الرئيس السابق لجامعة الزهراء (سلام الله عليها)، إذا تم الزواج الثاني مع مراعاة شروطه – كالعدل بين الزوجات، ودفع النفقة، والمعاملة الحسنة – فهو ليس فقط غير مخالف للمعاشرة بالمعروف، بل هو من مصاديقها. نص الحوار الحصري الذي أجرته «فقه معاصر» مع أستاذ الخارج في الفقه والأصول بحوزة قم المقدسة فيما يلي:
فقه معاصر: هل الحكم الأوّلي في الإسلام مجرد إباحة تعدد الزوجات، أم استحبابه؟
مدني: المرحوم صاحب الجواهر – الفقيه الشيعي الكبير – يقول: النكاح مستحب، وتكراره وتعدده مستحب أيضاً. لكن لتوضيح ذلك يجب أن نقول: أدلة الترغيب في النكاح والزواج جاءت أحياناً بصيغة الأمر، مثل «تزوّجوا وتناسلوا». هذه الأدلة تأمر بأصل الزواج، وكغيرها من الأوامر تسقط بالامتثال مرة واحدة، لأن التكرار لم يؤخذ في نفس الأمر، فلا تدل على استحباب الزواج الثاني.
في الآية الكريمة: «فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ…» جاءت كلمتا «مَثْنَى وَثُلَاثَ»، ومع أن «فَانْكِحُوا» أمر، إلا أنه لربما كان في معرض توهم الحظر، فيمكن المناقشة في دلالتها على استحباب التعدد.
أما استحباب أصل النكاح فله أدلة كثيرة، مثل الحديث: «ما بُنِيَ بِنَاءٌ فِي الْإِسْلَامِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ التَّزْوِيجِ» – ما بُني في الإسلام بناء أحب إلى الله من الزواج. لكن كما ذكرت، الطبيعة تقتضي أن الامتثال يتحقق بزواج واحد، فاستحباب الزواج الثاني غير معلوم.
ولنا حديث آخر: «أحب البيوت إلينا البيت المعمور بالنكاح»، أي أحب البيوت عندنا البيت الذي عُمّر بالزواج، لكن هذا الحديث أيضاً لا يدل على استحباب التعدد، لأن البيت يعمر بزواج واحد، وإعماره مرة ثانية تحصيل حاصل.
فقه معاصر: هل يمكن اعتبار تعدد الزوجات «عنفاً ضد الزوجة» وحكم بحرمته أو كراهته؟ وهل هناك فرق في هذا الحكم بين الزواج الدائم والمتعة؟
مدني: لا ينبغي تفسير تعدد الزوجات بأنه عنف جنسي بحيث يكون كل تعدد عنفاً جنسياً ضد الزوجة. وفي الروايات الكثيرة توصية بالمحبة والمودة للزوجة.
فمثلاً يقول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): «كلما ازداد العبد إيماناً ازداد حباً للنساء» – كلما زاد إيمان العبد زاد حبه للنساء. فمقدار الإيمان مرتبط ارتباطاً طردياً بمقدار المحبة للمرأة.
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): «من اشتد لنا حباً اشتد للنساء حباً» – من كان أشد حباً لنا كان أشد حباً للنساء.
وفي رواية أخرى يدعو الإمام الصادق لمن يحسن إلى زوجته: «رحم الله عبداً أحسن فيما بينه وبين زوجته».
ويقول الرسول (صلى الله عليه وآله): «حبب إليّ من دنياكم ثلاث: النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة».
ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «فدارها على كل حال وأحسن الصحبة لها ليصفو عيشك» – دارِها في كل الأحوال وأحسن صحبتها لتصفو حياتك.
وفي الإسلام أوامر كثيرة بأن يظهر الأصدقاء محبتهم لبعضهم علانية ويصرحوا بها، وهذا في الحياة الزوجية أولى وأكثر تأكيداً. انظر إلى قول النبي (صلى الله عليه وآله): «قول الرجل للمرأة إني أحبك لا يذهب من قلبها أبداً» – كلام الرجل لزوجته «إني أحبك» لا يخرج من قلبها أبداً. إذن يجب أن يصرّح الرجل بمحبته ولو كانت في قلبه، حتى تكون المحبة متبادلة. وعليه لا يجوز للزوجين عمل ما يؤذي الطرف الآخر أو يزعجه.
لكن هذا لا يعني وجوب استرضاء الزوجة في كل شيء، فلا يمكن القول إن كل عمل يزعج الزوجة حرام مطلقاً، أو أن استرضاءها واجب مطلقاً. نعم، إذا كان «العنف الجنسي» بمعنى أن الزواج الثاني يسبب ضرراً للزوجة – مثلاً يعلم الرجل أن زوجته ستُصاب بصدمة نفسية شديدة أو مشاكل كبيرة – فهنا تدخل أدلة حرمة الإضرار بالمؤمن وترفع جواز التعدد. وفي الروايات أيضاً – مع التأكيد على الزواج – جاء في المتعة: إذا تسبب ذلك في مشكلة لزوجاتكم أو تزلزل في عقائدهن فكفوا عنه.
إذن حتى لو اعتبرنا تعدد الزوجات نوعاً من العنف الجنسي، فليس حراماً دائماً ومطلقاً، ولا يلزم دائماً أخذ رضا الزوجة للزواج الثاني، لكن إذا أدى إلى ضرر لها فلا يجوز.
فقه معاصر: هل يمكن استفادة عدم جواز التعدد عند عدم رضا الزوجة الأولى قلبياً من آيات مثل «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»؟
مدني: بعض قالوا إن الآية «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» تدل على عدم جواز الزواج الثاني. لكن هذا القول لا يوافق القواعد الأصولية والفقهية؛ لأن معنى «عاشروهن بالمعروف» هو المعاشرة الحسنة المتعارفة، والزواج الثاني مع مراعاة شروط الإسلام (العدل وقدرة الرجل على توفير الحياة الكريمة للزوجات) هو من مصاديق المعاشرة بالمعروف. فلو كان الزواج الثاني معاشرة بالمنكر للزم أن يكون القرآن قد أمر بشيء ثم نهى عنه، وهذا تناقض في التشريع. إذن معنى «عاشروهن بالمعروف» – سواء بوجود زوجة واحدة أو أكثر – هو ألا يظلم الرجل، وأن يدفع النفقة… وإذا أساءت الزوجة معاملته ولم تقم بواجباتها فهي التي لا تعاشر بالمعروف.
فقه معاصر: مع أن تعدد الزوجات ليس فيه قبح ذاتي، بل لا يزال حتى اليوم غير قبيح ولا معاشرة بالسوء في جميع المجتمعات، فهل يجوز التشكيك في جوازه بتطبيق عناوين مستوردة وغير شرعية مثل «العنف ضد الزوجة»؟
مدني: بعض قالوا في مسألة الزواج: لنا أحكام الزواج، وذوق الشارع أو ميله، وأهدافه. وحاولوا بهذه الألفاظ نفي التعدد، فقالوا: وإن كان مسموحاً في الأحكام الشرعية، لكن الشارع قال اعدلوا، وبما أن العدل غير ممكن فمذاق الشارع وميله ألا يتم هذا العمل. ومن أهداف الشارع تحقيق السكينة والطمأنينة، وهي تنعدم بالزواج الثاني، فلا يكون مشروعاً.
يبدو أن هذا ناشئ من عدم فهم صحيح للأدلة. فحين يقيّد الإسلام الزواج الثاني بشرط العدل، ويحتاج الرجل إلى زواج ثانٍ، ويستطيع توفير النفقة والحياة، ويعمل بالعدل، فلا يمكن القول إنه خالف أمر العدل أو مذاق الشارع؛ لأن ذلك تناقض في التشريع: يأمر الشارع بالزواج في مكان ويحرّم الزواج الثاني في مكان آخر.
الحقيقة أنه إذا استطاع الرجل أن يعاشر بالمعروف ويعدل بين زوجاته جاز له الزواج الثاني، وإلا فلا. فالخلط بين المسائل والحكم بعدم جواز الزواج الثاني مطلقاً خطأ.
النقطة المهمة: ما ذكرناه مبني على الأدلة الأولية. أما إذا اقتضت العناوين الثانوية حكماً آخر فالحكم يتغير؛ مثلاً إذا كنا في بلد لا يجيز فيه القانون التعدد، أو كان التعدد يسبب وهن الدين والمسلمين، أو كان الزواج الثاني سيؤدي إلى أن تقدم الزوجة الأولى على عمل غير لائق يضر بنفسها أو بالآخرين ويثير نزاعات كبيرة، فهنا يختلف حكم المسألة. وتشخيص هذه العناوين وإصدار الحكم فيها منوط بالفقيه، وإن كان تشخيص موضوعها منوطاً بالمكلّف نفسه.
