ملاحظة: الدكتور عبد الوهاب الفراتي أستاذ مشارك في معهد الثقافة والفكر الإسلامي، وله العديد من الكتب والمقالات في مجال الفكر السياسي. وتوجهت أبحاثه الحديثة نحو معرفة التيارات العلمية والدينية في إيران وخاصة خارجها. تحدثنا معه حول ماهية فقه العلاقات الدولية واختلافه عن المفاهيم المشابهة مثل القانون الدولي. وأشار إلى نقطة أهم، وهي أن صورة «فقه الدولي» تستند أساساً إلى قبول الهندسة القديمة للسلطة، وإلا ففي الهندسة الجديدة للسلطة لا معنى للحديث عن الدين والفقه. وفيما يلي نص الحوار الخاص الذي أجرته مجلة «فقه معاصر» مع عضو المجلس العلمي لفريق «فقه السياسة والعلاقات الدولية» في معهد دراسات الفقه المعاصر:
فقه معاصر: ما هو فقه العلاقات الدولية؟ وما الفرق بينه وبين مفاهيم مشابهة مثل «فقه السياسة» و«فقه القانون الدولي» و«النهج الدولي للفقه»؟
الفراتي: لا شك أن فقه الدولي مفهوم مختلف تماماً عن القانون الدولي، وله وظيفة متمايزة كلياً عنه. إن مجال «الدولي» مجال واسع يشمل ميادين كثيرة مثل معرفة بنية السلطة العالمية، ومعرفة الكتل الغربية والشرقية والمؤسسات الدولية، ويضم بطريقة ما جميع التطورات الدولية. والقانون الدولي أيضاً يضع مجموعة من القيم والمعايير لتنظيم العلاقات في هذا المجال الواسع، حتى لا تُترك هذه البنية والمؤسسات بلا قاعدة، مثل المعاهدات الدولية والعرف الدولي الذي يُعتبر الالتزام به من وجهة نظر القانون الدولي واجباً. أما فقه الدولي فيسعى إلى وضع قواعد في علاقات المسلمين – مع قيدين – الأول: خارج دولة المدينة، والثاني: مع من هم خارج دائرة الديانة الإسلامية. وهذا يعني أن فقه الدولي لا يهتم أصلاً بسلوك الطرف المقابل في العلاقات الدولية، بل يهدف بالأحرى إلى رسم القواعد والمبادئ التي يجب علينا مراعاتها مع من لهم زاوية عقدية معنا.
ولذلك فإن قواعد فقه الدولي تتعلق بفعلنا نحن لا بفعل اللاعبين الآخرين في الساحة الدولية، بينما يتحدث القانون الدولي عن قواعد ومعايير تتعلق بفعل الجميع، وقد قبلها الجميع وتعهدوا بالعمل بها. في الواقع، يتحدث فقه الدولي عن سلوك المسلمين في الساحة الدولية، بينما يتحدث القانون الدولي عن سلوك الجميع. أما كيفية فهم هذا السلوك فهذا ليس من عمل الفقه، لأن طبيعة هذا السلوك تتغير في كل عصر. في الماضي كانت ماهية هذا السلوك تستند إلى الإيمان والشرك، وقد رسم الفقه الإسلامي داخل ذلك قواعد دولية، ولكن اليوم تغيرت ماهية السلوك الدولي، ويجب على الفقه أن يدرك نسيج هذا السلوك الجديد، وهذا هو ما يُعبر عنه في الأدبيات الدولية بتغير هندسة السلطة في العصر الحديث.
إن الذين يتحدثون عن فقه الدولي عادة ما يقفون في الهندسة القديمة، بينما الهندسة الجديدة – مع احترامها للدين – لا تعبأ بالدين، وإنما تمنع الأفراد والدول من التعدي على دين الآخرين. في مثل هذه الظروف لم يعد الفقه قادراً على رسم القواعد الدولية استناداً إلى الحدود العقدية، بل يجب أن يعيد تعريف نفسه وفق الهندسة الجديدة. وهذا يظهر أن الصورة السابقة لسياق السلطة قد تحولت، وأن هندسة السلطة لم تعد تستند إلى التقسيم الثنائي إيمان وكفر الذي عاش فيه الفقه.
فقه معاصر: هل يمكن – مع وجود النهج الاستعلائي للمسلم تجاه الكافر والشيعي تجاه أهل السنة في الفقه – ترتيب فقه علاقات دولية فعّال يقوم على تساوي طرفي العلاقة؟
الفراتي: إن الدقة في الجواب السابق تظهر أن هذه المقدمات قد انهارت أصلاً في العصر الحديث وفي البنية الحالية للعلاقات الدولية، ولا يمكن للفقه الإسلامي أن يناقش استناداً إلى النهج الاستعلائي الثنائي المذكور في السؤال. والسبب هو أن مقدمات النظام الدولي قد تغيرت، ويجب على الفقه أن يدرس هذه المقدمات والمعايير. فمثلاً، المقدمات الحالية للنظام الدولي تنقسم إلى عدة فئات:
- فئة دخلت تحت معاهدات مثل حقوق الإنسان.
- فئة تتعلق بالمصالح المشتركة للدول.
- فئة استقرت في التحالفات الجديدة وتكتلات السلطة.
ولذلك فإن فقه الدولي مكلف أولاً بتحليل هذه المعايير وعدم البقاء في المعيار السابق للإيمان والكفر، وثانياً ببيان الكليات التي تجعل أياً من هذه المعايير في هذه التصنيفات الثلاثية لا تؤدي إلى السيطرة. بالطبع تشخيص هذه الحالات ليس من عمل الفقه، بل يجب إحالتها إلى ولاة الأمر في الدولة الإسلامية. وهذا يظهر أنه لا وجود في شبكة السلطة الجارية في الساحة الدولية لشيء اسمه إيمان وكفر، وأن نشر الليبرالية وأمثالها لا يُعتبر ديناً.
فقه معاصر: هل يمكنكم توضيح المزيد حول تغير هندسة السلطة الدولية؟
الفراتي: لقد كانت هناك عصور متعددة للاستعلاء، ويمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل رئيسية:
- مرحلة استعلاء الجسد على الجسد، حيث كان الرق سائداً، وولد جزء من الفقه الإسلامي داخل هذه المرحلة ولديه أحكام دقيقة بشأنها.
- مرحلة استعلاء العمل والمهارة، وهي خاصة بالعصر الصناعي في الغرب، وقد اهتم الفقه الإسلامي بها أقل.
- مرحلة استعلاء المعلومات والتكنولوجيا، وهي التي تشكل اليوم ماهية هندسة السلطة.
يبدو أن الفقه ككل لم يقم بعد بتحليل هذا التغير في نسيج الهندسة العالمية أو اهتم به قليلاً. إن فقه الدولي السابق لا يصلح لفهم هذه المرحلة ولا يملك كفاءة لذلك.
فقه معاصر: بناءً على هذا التحليل، ما هي العناوين الجديدة التي يحتاج فقه الدولي إلى مناقشتها لكي يرتبط بالمرحلة الثالثة؟
الفراتي: سؤال جيد يمنعنا من العودة مرة أخرى إلى العناوين التقليدية للفقه في العلاقات الدولية. يبدو أن الهندسة الجديدة للسلطة تضع أمام الفقه الإسلامي عناوين جديدة يجب أن يحكم فيها، بشرط أن يدرك هذه الهندسة أولاً. وهذه العناوين هي:
- توضيح موقفه من قضية الهجرة.
- النظر في الحدود الجغرافية في الدول الحديثة.
- إيلاء الأهمية للبيئة.
- الاهتمام بتبادل الثروة والتكنولوجيا في الساحة العالمية.
- الاهتمام بالفساد الداخلي الذي ينقل الثروة خارج الحدود.
- النظر في الحرب والسلم وفق نسيجهما الجديد، وإدراك أن الدول اليوم تحارب أو تصالح وفق إطارات محددة، وأن الحرب ليست كالإرهاب بلا قاعدة وضابطة.
بالطبع يمكن للفقه أن يبدي رأيه في الجرائم الدولية، لكن الواقع أن الجرائم الدولية من مواضيع القانون الدولي ولا علاقة لها بفقه الدولي.
